السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
بعد غياب طويل عن كتابة ونشر الدروس والخطب الإسلامية نعود بـ خطبة الجمعة مكتوبة عن زاد المؤمنين وهو العمل الصالح ونأسف على التقصير في نشر الدروس إن شاء الله ستكون عودة قوية.
الحمد لله الداعي إلى صالحات الأعمال، يسر لمن زكى نفسه زاكيات الخصال، أحمده تعالى على الإنعام والنوال، وأشكره على الكرم والجود والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الولي المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، الصادق في الفعل والمقال، صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأصحاب والآل، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الجزاء والمآل.
أما بعد، فإني أوصيكم، عباد الله، ونفسي بتقوى الله والعمل الصالح، واعلموا أن المسلم يهدف في حياته إلى أن يحقق ما ندبه الله تعالى له في قوله: ( يا أيُّها النّاسُ اعبُدُوا ربّكُمُ الّذِي خلقكُم والّذِين مِن قبلِكُم لعلّكُم تتّقُون ).
فتحقيق عبادة الله عز وجل والاشتغال بالعمل الصالح هو الغاية التي يسعى لأجلها المسلم، آملا من ورائها أن يرد مورد المتقين، وينال بها رضى رب العالمين، وبها يقوم بحق أمانة عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها، وحملها الإنسان، يقول جل وعلا: ( إِنّا عرضنا الأمانة على السّماواتِ والأرضِ والجِبالِ فأبين أن يحمِلنها وأشفقن مِنها وحملها الإِنسانُ إِنّهُ كان ظلُوما جهُولا ).
وهذان الوصفان اللذان ختم الله تعالى بهما هذه الآية الكريمة، وهما الظلم والجهل، هما سبب العجز والفشل، ومقاومتهما هي الطريقة الوحيدة لحمل أمانة الله تعالى حق الحمل، ولا تتم مقاومة الجهل والظلم إلا بالعلم أولا، العلم بكتاب الله وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يسأل المرء عما أشكل عليه فهمه من أمور دينه الفقهاء في دين الله، مثلما يسأل عما يجهله من أمور الدنيا المتخصصين في أمور دنياه ،( وما أرسلنا قبلك إِلّا رِجالا نُّوحِي إِليهِم فاسألُوا أهل الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تعلمُون ).
ثم بالصبر والتحمل ثانيا، ثم بتقوى الله تعالى التي هي خير زاد، وهي في مقدمة الوسائل التي تعين العبد على أن يقوم بما أمره الله تعالى به في الحياة من العبادة.
أيها المسلمون:
إن عبادة الله تعالى والعمل الصالح وجهان لعملة واحدة، غير أن العبادة تتسع في مفهومها حتى تشمل جميع ما يأتيه العبد فعلا وتركا بنية التقرب إلى الرب سبحانه، حتى إن المباحات من منام وطعام وشراب تصبح عبادة يتقرب بها فاعلها إلى الخالق جل وعلا بحسن النية وإحسان القصد القلبي، كما تتحقق عبادة الله تعالى وشكره بكل عمل صالح يبتغي به فاعله وجه الله عز وجل.
فقد حكى الله تعالى عن العمارة التي كان يقوم بها آل داود ومن في خدمتهم من الإنس والجن مما كانوا ينحتونه في الحجارة ويرفعون به الأبنية، ثم قال: ( وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنهُم مِّن رِّزق وَمَا أُرِيدُ أَن يُطعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ ).
فأحسن، يا عبد الله، قصدك القلبي، وراع نيتك حال توجهك إلى العمل، فابتغ به وجه الله، لتنال به عفو الخالق ورضاه، فعملك الصالح يتردد ما بين أن يكون شكرا لله تعالى، أو تعبدا له جل وعلا وامتثالا لما أمر، أو سؤالا لأجر، وابتغاء لثواب.
أو طلبا لمغفرة وتكفير سيئة، فكل هذه النيات والمعاني الخيرة اجعلها حاضرة، وأنت تزاول أعمالك الصالحة، حتى تنال من الله تعالى بركة في أعمالك، وقبولا عنده فيما تأتيه وفيما تذره، يقول تعالى: ( مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعا إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُم عَذَاب شَدِيد ۖ وَمَكرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ ) ، وهو سبحانه قد رتب لكل عمل جزاء ؛ ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلا ) .
ليت الواحد منا وهو يمارس أعماله الصالحة يراعي الأجود من العمل، ويتوخى الأفضل مما يقدمه، كحال ذلك التاجر الذي يحرص على الربح فوق رأس ماله، فيجتهد في العمل على نجاح مشروعه، يدرس جدوى المشروع، ويوفر الأدوات والآلات.
ويستقدم العمال المهرة، ويهيئ اللوحة الجذابة، إلى غير ذلك من الوسائل التجارية المباحة. فشأنك، أيها الساعي إلى الدار الآخرة، أعظم من شأن ذلك التاجر، لأنك تتاجر التجارة التي ضمن لك الله تعالى نجاحها، وأعظم لك ثمنها، ( وَمَن أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعيَهَا وَهُوَ مُؤمِن فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعيُهُم مَّشكُورا ).
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَل أَدُلُّكُم عَلَىٰ تِجَارَة تُنجِيكُم مِّن عَذَاب أَلِيم (10) تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم ۚ ذَٰلِكُم خَير لَّكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ )،( مَن عَمِلَ صَالِحا مِّن ذَكَر أَو أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤمِن فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاة طَيِّبَة ۖ وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ ).
فاتقوا الله -عباد الله-، ومهدوا لدار الثواب بالأعمال الصالحة التي تقدمونها خالصة لوجه الله الكريم، وثقوا بموعوده فإن الله شاكر عليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
الْحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْـبِهِ.
أما بعد، فيا عباد الله:
ما أعظم ثواب الله تعالى لمن آمن وعمل صالحا، فإن ثوابه عز وجل على العمل الصالح، منه ما هو معجل ومنه ما هو مدخر مؤجل، فمن ثوابه تعالى المعجل دوام النعمة واستمرارها، وحفظ العبد في سمعه وبصره وسائر جوارحه، وفي حياة طيبة يحياها، يقول عز من قائل ( وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيء مِّنَ الخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقص مِّنَ الأَموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ).
وهذا لا يمنع وقوع المصائب والآفات؛ إذ قد يقدر الله تعالى المصائب تطهيرا وتمحيصا، ورفعا للمقامات، ومن ثواب الله على العمل الصالح ما يمتد ليشمل ذرية الإنسان من بعده، كما حكى عز وجل حفظه لمال يتيمين كان أبوهما صالحا في سورة الكهف ( وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَينِ يَتِيمَينِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحتَهُ كَنز لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَستَخرِجَا كَنزَهُمَا رَحمَة مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلتُهُ عَن أَمرِي ذَٰلِكَ تَأوِيلُ مَا لَم تَسطِع عَّلَيهِ صَبرا ).
وأما ثواب الله تعالى المدخر في الآخرة فلا يدخل تحت حسبان، إن الله إذا أعطى أدهش، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلا ).
واعلموا، عباد الله، أنكم مقبلون على أيام جليلة مباركة أقسم الله بها تعظيما لقدرها، فقال: (وَالفَجرِ (1) وَلَيَال عَشر (2) ) ونوه رسوله صلى الله عليه وسلم بعظيم فضلها حيث قال: ((مَا مِن أَيَّام أَعظَمُ وَلا أَحَبُّ إِلَى اللهِ العَمَلُ فِيهِنَّ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ -أَيِ العَشرِ الأُوَلِ مِن ذِي الحِجَّةِ-، فَأَكثِرُوا فِيهِنَّ مِن التَّهلِيلِ وَالتَّكبِيرِ وَالتَّحمِيدِ)).
فاتقوا الله -عباد الله-، واسعوا إلى مرضاة الله، وجاهدوا في طاعة الله ( سَابِقُوا إِلَىٰ مَغفِرَة مِّن رَّبِّكُم وَجَنَّة عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ ).
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين، فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه حيث قال عز قائلا عليما:( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيما ).
اللّهُمّ صلِّ وسلِّم على سيِّدِنا مُحمّد وعلى آلِ سيِّدِنا مُحمّد، كما صلّيت وسلّمت على سيِّدِنا إِبراهِيم وعلى آلِ سيِّدِنا إِبراهِيم، وبارِك على سيِّدِنا مُحمّد وعلى آلِ سيِّدِنا مُحمّد، كما باركت على سيِّدِنا إِبراهِيم وعلى آلِ سيِّدِنا إِبراهِيم، فِي العالمِين إِنّك حمِيد مجِيد، وارض اللّهُمّ عن خُلفائِهِ الرّاشِدِين، وعن أزواجِهِ أُمّهاتِ المُؤمِنِين، وعن سائِرِ الصّحابةِ أجمعِين، وعن المُؤمِنِين والمُؤمِناتِ إِلى يومِ الدِّينِ، وعنّا معهُم بِرحمتِك يا أرحم الرّاحِمِين.
اللّهُمّ اجعل جمعنا هذا جمعا مرحُوما، واجعل تفرُّقنا مِن بعدِهِ تفرُّقا معصُوما، ولا تدع فِينا ولا معنا شقِيّا ولا محرُوما.
اللّهُمّ أعِزّ الإِسلام والمُسلِمِين، ووحِّدِ اللّهُمّ صُفُوفهُم، وأجمِع كلِمتهُم على الحقِّ، واكسِر شوكة الظّالِمِين، واكتُبِ السّلام والأمن لِعِبادِك أجمعِين.
اللّهُمّ يا حيُّ يا قيُّومُ يا ذا الجلالِ والإِكرامِ، لا إِله إِلاّ أنت سُبحانك بِك نستجِيرُ، وبِرحمتِك نستغِيثُ ألاّ تكِلنا إِلى أنفُسِنا طرفة عين، ولا أدنى مِن ذلِك ولا أكثر، وأصلِح لنا شأننا كُلّهُ يا مُصلِح شأنِ الصّالِحِين.
اللّهُمّ ربّنا احفظ أوطاننا وأعِزّ سُلطاننا وأيِّدهُ بِالحقِّ وأيِّد بِهِ الحقّ يا ربّ العالمِين، اللّهُمّ أسبِغ عليهِ نِعمتك، وأيِّدهُ بِنُورِ حِكمتِك، وسدِّدهُ بِتوفِيقِك، واحفظهُ بِعينِ رِعايتِك.
اللّهُمّ أنزِل علينا مِن بركاتِ السّماءِ وأخرِج لنا مِن خيراتِ الأرضِ، وبارِك لنا فِي ثِمارِنا وزُرُوعِنا وكُلِّ أرزاقِنا يا ذا الجلالِ والإِكرامِ. ربّنا آتِنا فِي الدُّنيا حسنة وفِي الآخِرةِ حسنة وقِنا عذاب النّارِ. اللّهُمّ اغفِر لِلمُؤمِنِين والمُؤمِناتِ، المُسلِمِين والمُسلِماتِ، الأحياءِ مِنهُم والأمواتِ، إِنّك سمِيع قرِيب مُجِيبُ الدُّعاءِ.