الآية الأولى
﴿رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف :101].
والكلام في هذه الآية عن أمرين:
الأول: الدعاء بالموت على الإسلام.
فقولُ يُوسُفَ عليهِ السلامُ ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾ كقولِ يَعقُوبَ عليهِ السلامُ لولدِهِ ﴿وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ وإنما دعا بِهِ يُوسُفُ عليهِ السلام ليقتدِيَ بِهِ قَوْمُهُ ومَنْ بعدَهُ مـمن ليسَ بـمأمونِ العاقبةِ. لـهذا الغرضِ طلبَ مِنَ اللهِ أنْ يَتَوَفَّاهُ مُسلمًا مَعَ أَنَّهُ شَيءٌ لا شَكَّ فيهِ، كما نقولُ في كُلِّ صلاةٍ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
ثُمَّ أَلَيسَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يقولُ في كُلِّ صلاةٍ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ مع أنَّهُ كانَ مُهْتَدِيًا قَبلَ ذلكَ قبلَ نزولِ الفاتحةِ؟! ومعنى قولِهِ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾أَكْرِمْنَا باستدامةِ الهدايةِ على الإسلامِ.
هو الرسولُ عليهِ السلامُ كانَ مُؤْمِنًا مِنْ أَوَّلِ نشأَتِهِ إنـما الـمرادُ الثباتُ على الهُدى، وإنما التَثبيتُ على الشيءِ الحاصلِ وليسَ على شيءٍ لم يَحصُلْ. كما كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُونٌ عَليهِ ولكِنْ لِيُعَلِّمَ أُمَّتَهُ: "اللَّهمَّ يا مُقَلبَ القَلوبِ ثَبِّتْ قُلوبَنا على دِينِكَ" رواهُ البيهقيُّ.
وهذا الدُّعاء يحتمل أن يوسف عليه السلام قاله عند احتضاره، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعَل يرفع أصبعه عند الموت، ويقول: {اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى} [أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» باب «مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته» حديث (4437).
ويحتمل أنه سأل الوفاةَ على الإسلام واللِّحاق بالصالحين إذا حان أجلُه وانقضى عمرُه، لا أنه سأل ذلك منجزًا، كما يقول الداعي لغيره: «أماتك الله على الإسلام». ويقول الداعي: {اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين}
ثانيا: حكم تمني الموت.
أولاً: طول العمر للمؤمن الذي يعمل صالحاً خير له من الموت
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله) رواه أحمد والترمذي (110) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن طال عمره وحسن عمله) رواه الطبراني وأبو نعيم، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3928) .
وروى أحمد (8195) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً. قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ! وَصَلَّى سِتَّةَ آلافِ رَكْعَةٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً! صَلاةَ السَّنَةِ). صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2591). وقال العجلوني في "كشف الخفاء": إسناده حسن.
وقال رجل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ) قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: (مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ) رواه أحمد والترمذي (2330)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " إِنَّ الأَوْقَاتِ وَالسَّاعَاتِ كَرَأْسِ الْمَالِ لِلتَّاجِرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّجِرَ فِيمَا يَرْبَحُ فِيهِ وَكُلَّمَا كَانَ رَأْسُ مَالِهِ كَثِيرًا كَانَ الرِّبْحُ أَكْثَرَ، فَمَنْ اِنْتَفَعَ مِنْ عُمُرِهِ بِأَنْ حَسُنَ عَمَلُهُ فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ، وَمَنْ أَضَاعَ رَأْسَ مَالِهِ لَمْ يَرْبَحْ وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا " انتهى.
ولذلك قيل لبعض السلف: طاب الموت!
قال: يا ابن أخي، لا تفعل، لساعة تعيش فيها تستغفر الله، خير لك من موت الدهر!
وقيل لشيخ كبير منهم: أتحب الموت؟ قال: لا، قد ذهب الشباب وشره، وجاء الكبر وخيره، فإذا قمت قلت: بسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمد لله، فأنا أحب أن يبقى هذا! وكان كثير من السلف يبكي عند موته أسفا على انقطاع أعماله الصالحة.
ولأجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت، لأنه يحرم المؤمن من خير الطاعة، ولذة العبادة، وفرصة التوبة، واستدراك ما فات:
فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ، وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا} رواه مسلم (2682).
فجمع بين النهي عن تمني الموت، والنهي عن الدعاء به على النفس.
وعند البخاري (7235) بلفظ: {لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ}.
قَالَ النَّوَوِيّ: فِي الْحَدِيث التَّصْرِيح بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ فَاقَة، أَوْ مِحْنَة بِعَدُوٍّ، وَنَحْوه مِنْ مَشَاقّ الدُّنْيَا، فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضَرَرًا أَوْ فِتْنَة فِي دِينه فَلا كَرَاهَة فِيهِ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ فَعَلَهُ خَلَائِق مِنْ السَّلَف.
وَقَوْله " يَسْتَعْتِبُ " أَيْ يَسْتَرْضِي اللَّه بِالإِقْلاعِ وَالاسْتِغْفَار.
وفي تمني الموت معنى آخر يمنع منه:
وهو أن سكرات الموت شديدة، وهول المطلع أمر فظيع، ولا عهد للمرء بمثل ذلك، ثم إن الإنسان لا يدري ما ينتظره بعد الموت! نسأل الله السلامة، فتمني الموت طلب لشيء لا عهد للمرء به، وتغرير بنفسه؛ وعسى إن تمنى الموتَ بسبب شدةٍ وقع فيها أن يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فلعله أن يهجم بعد الموت على ما هو أعظم وأشد مما هو فيه ؛ فتمني الموت حينئذ نوع من استعجال البلاء قبل وقوعه، ولا ينبغي للعاقل أن يفعل ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: {لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ} متفق عليه، وقد ورد في هذا المعنى حديث، ولكن ضعيف.
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قالُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تَمَنَّوْا الْمَوْتَ، فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطَّلَع شَدِيدٌ، وَإِنَّ مِنْ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الإِنَابَةَ} رواه أحمد، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة.
وسمع ابن عمر رجلا يتمنى الموت، فقال: لا تتمن الموت، فإنك ميت، وسل الله العافية، فإن الميت ينكشف له عن هول عظيم.
قال ابن رجب رحمه الله: " وقد كان كثير من الصالحين يتمنى الموت في صحته، فلما نزل به كرهه لشدته، ومنهم أبو الدرداء وسفيان الثوري، فما الظن بغيرهما؟
والنهي عن تمني الموت إنما هو إذا كان بسبب ما يحصل للمرء من ضرر في أمور دنياه، فإنّ تمني الموت حينئذ دليل على الجزع مما أصابه:
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي , وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي} متفق عليه.
وَقَوْله " مِنْ ضُرّ أَصَابَهُ " يعني بذلك الضرر الدنيوي كالمرض والابتلاء في المال والأولاد وما أشبه ذلك، وأما إذا خاف ضرراً في دينه كالفتنة فإنه لا حرج من تمني الموت حينئذٍ كما سيأتي.
ولعل هذا الذي طلب الموت ليستريح مما به من ضر، لعله أن يزيد تعبه، ويتصل ألمه وهو لا يدري؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاتَتْ فُلَانَةُ، وَاسْتَرَاحَتْ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: {إِنَّمَا يَسْتَرِيحُ مَنْ غُفِرَ لَهُ} رواه أحمد (24192) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1710).
ثانياً: هناك بعض الحالات يشرع تمني الموت فيها، منها:
الأولى: أن يخشى على دينه من الفتن
ولا شك أن موت الإنسان بعيدا عن الفتن، ولو كان عمله يسيرا، خير له من أن يفتن في دينه، نسأل الله السلامة.
فعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ) رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (813).
وقد دل على مشروعية تمني الموت في هذه الحال أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) رواه الترمذي (3233) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
قال ابن رجب رحمه الله: هذا جائز عند أكثر العلماء.
وعلى هذا يحمل ما ورد عن السلف في تمني الموت؛ أنهم تمنوا الموت خوفاً من الفتنة.
روى مالك عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قال: لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ مِنًى أَنَاخَ بِالأَبْطَحِ ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً بَطْحَاءَ ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهَا رِدَاءَهُ وَاسْتَلْقَى ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: {اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلا مُفَرِّطٍ} قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رضي الله عنه.
وقال أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: من رأى الموت يباع فليشتره لي!
"الثبات عند الممات" لابن الجوزي (ص 45)!
الثانية: أن يكون موته شهادة في سبيل الله عز وجل
وقد دل على مشروعية تمني الموت في هذه الحال كثير من الأحاديث، منها:
عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ} متفق عليه. فقد تمنى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتل في سبيل الله، وما ذاك إلا لعظم فضل الشهادة.
وروى مسلم (1909) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ}.
وقد كان السلف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم يحبون الموت في سبيل الله.
قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بشأن مسيلمة الكذاب عندما ادعى النبوة: والله لأقاتلنه بقوم يحبون الموت كما يحب الحياة.
وكتب خالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى أهل فارس: والذي لا إله غيره لأبعثنَّ إليكم قوماً يحبُّون الموت كما تحبُّون أنتم الحياة.
وإنما كانت هذه المنزلة مرغوبة - لا حرمنا الله منها - وطلبها ممدوحا من كل وجه، لأن من أعطيها لم يحرم أجر العمل الصالح الذي تطيب لأجله الحياة، وتكون خيرا للمرء من الموت، ثم إن الله تعالى يحمي صاحب هذه المنزلة من فتنة القبر.
فعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ} رواه مسلم (1913).
والخلاصة: أن يكره للمسلم أن يتمنى الموت إن كان ذلك بسبب ضر أصابه في الدنيا، بل عليه أن يصبر ويستعين بالله تعالى، ونسأل الله تعالى أن يفرج عنك ما أنت فيه من الهم.
*******************************************************************
الآية الثانية
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (108)
الدعوة إلى الله وظيفة عَمِل بها أشرف الخلْق وأكملهم نبيُّنا محمد، والْتَحَق بركابها مَن سبَقه من الأنبياء والرُّسل، ألَم يقل ربُّنا - تبارك وتعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: 45 – 46].
﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ [الرعد: 36]
بل أُمِر بها نبيُّنا؛ ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125]
ألَم يُبيِّن ربُّنا الوظيفة الكُبرى لأنبيائه ورُسله حين قال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
وقال – سبحانه: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]
إنها وظيفة شَرُفتْ بها هذه الأمة المحمديَّة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]
والقيام بها تحقيق لأمر الله تعالى القائل: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]
وفي الدعوة إلى الله تعالى رحمة بالأُمة ونشرٌ للفضائل والمكارم، وفيها من الأجور ما الله تعالى به عليم، فمن أحبَّ أن يشاركَ الناس في أعمالهم الصالحة، ويكونَ له مثل أجورهم، فعليه بالدعوة إلى الله تعالى؛ فعن أبي مسعود: ((مَن دلَّ على خير فله مثل أجْر فاعله))؛ أخرَجه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثلُ أجور مَن تَبِعه، لا يَنقص ذلك من أجورهم شيئًا))؛ مسلم.
ولا ريب أنَّ ثمة أمور كثيرة تخص قضية الدعوة يحدث حولها جدل واسع، وتخضع لمؤثرات مختلفة، مما دعا البعض إلى التخبط وضبابية الرؤية إزاء حقائق تمثل الأرض الصلبة التي ننطلق منها، والأصول التي ينبغي أن تتحد الرايات حولها.
فمن ذلك:
أولًا: الأمة كلها يقع عليها عبء الدعوة إلى الله.
فلا ينبغي أن يتخلف أحد من المسلمين عن هذا الميدان، ولا ينبغي أن يزدري المرء نفسه ويظن أنه أقل من أن يدعو ويعمل.
قال الله تعالي: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني﴾
فهذه هي السبيل، ولكن كم هم الفارون.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/5):
" والدعوة إلى الله واجبة على من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أمته وقد وصفهم الله بذلك: كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فهذه في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حقهم قوله: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ الآية وقوله: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ الآية .
وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة، وهو فرض كفاية يسقط عن البعض بالبعض كقوله: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير﴾ الآية فجميع الأمة تقوم مقامه في الدعوة: فبهذا إجماعهم حجة وإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله. ا. هـ
ومن أهم شروط الدعوة إلى الله شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص.
قال الله تعالى: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة﴾.
وقال صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى}
فالدعوة إلى الله عبادة، فيتدبر المرء هذا المشهد جليًا، ويعلم من هذا أنَّ قيامه بهذا الواجب هو ما أمر به أما النتائج فليست داخلة في واجبه، وليست من شأنه بل هي قدر الله تعالى ومشيئته، وهو ونيته وجهده وعمله جانب من هذا القدر، ومن هنا تكتسب الأعمال قيمتها في النفس من بواعثها لا من نتائجها، وجزاء المرء في العبادة التي أداها لا في النتائج التي أحرزها.
ومتى استقر هذا المعنى في القلب تباعدت عنه الأطماع الدنيوية، لأنه حينئذٍ يرتفع إلى أفق العبودية فتأنف نفسه وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة ولو كانت هذه الغاية هي نصرة دين الله وجعل كلمة الله هي العليا، لأنَّ الوسيلة الخسيسة تحطم معنى العبادة الشريف، فلا نمنِّي النفس بلوغ الغايات بل هي حريصة على أداء الواجبات، ويستمتع العبد بعد هذا براحة الضمير وطمأنينة النفس وصلاح البال في جميع الأحوال سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها.
والإخلاص عزيز، ولذلك يحتاج القلب إلى تمحيص النوايا، فعلى كل منا أن يتهم نفسه، وأن يلقي باللائمة عليها ففي الإخلاص الخلاص.
ولذلك ينبغي أن يكون هناك تمحيص مستمر للمسيرة الدعوية، ومحاولة الكشف عن العيوب، من الهوى والشهرة وحب الظهور وحب النفس والعمل لها وطلب الجاه والرياسة ولهذا يحتاج من الداعية دوام اللجأ إلى الله والاستعانة به على آفات نفسه، " نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا "
الشرط الثاني: العلم بما يدعو إليه.
فإن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة؛ لأن الله يقول جل وعلا: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ [يوسف:108] لا بد أن يكون عنده علم، لا بد أن يكون عنده علم من القرآن العظيم، والسنة المطهرة، فإذا كان عنده علم وبصيرة من الأدلة القرآنية، والأدلة الحديثية عن الرسول ﷺ فإنه يدعو إلى الله حسب علمه.
فالمقصود: إذا كان عنده علم بالقرآن والسنة فإنه يدعو إلى الله، ويعلم الناس دينهم، ويرشدهم إلى توحيد الله وعبادته، ويعلمهم ما أوجب الله عليهم، ويحذرهم ما حرم الله عليهم، ويرغب ويرهب كما شرع الله، وإذا كان ما عنده علم فليس له الكلام فيما لا يعلم، لكن الإنسان إذا كان عنده علم في بعض الأشياء دعا إليها، مثلما يدعو المؤمن إخوانه إلى الصلاة وإن كان عامي؛ لأن الصلاة معلومة، يدعوهم إلى الصلاة والمحافظة عليها في الجماعة، يدعوهم إلى بر الوالدين، هذا شيء معروف، يدعوهم إلى أداء الزكاة هذا شيء معروف، يدعوهم إلى صيام رمضان هذا شيء معروف، حتى ولو العامي يجتهد مع أهله، ومع إخوانه في العناية بهذه الأمور، كذلك يحذر من الزنا.. من الريبة.. من الربا.. من عقوق الوالدين.. من شرب الخمر، هذه أمور معلومة، لكن الأشياء التي قد تخفى تحتاج إلى علم فلا يتكلم فيها إلا صاحب العلم.
أما الأمور الواضحة المعروفة من الدين بالضرورة هذه يتكلم فيها العالم وغير العالم، فالإنسان في أهل بيته، ومع جيرانه؛ ينصحهم في الأمور الظاهرة، تحذيرهم مما حرم الله الحث على أداء الصلاة في الجماعة.. الحث على بر الوالدين في صلة الرحم، هذه أمور معلومة بحمد الله.
لكن ليس للداعي إلى الله أن يتكلم فيما لا يعلم، بل يجب أن يتحرى ما دل عليه القرآن، والسنة؛ حتى يكون في دعوته على بصيرة كما قال الله سبحانه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ [يوسف:108]،
والله يقول جل وعلا: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:33]،
فجعل القول عليه بغير علم في القمة فوق الشرك لعظم خطره، وأخبر سبحانه أن الشيطان يأمر بذلك فقال عن الشيطان: ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:169]
فالشيطان يدعو الناس إلى الكلام بغير علم والدعوة بالجهل، وهذا منكر عظيم، بل الداعي إلى الله يجب أن يتثبت ويجب أن يتعلم حتى يكون على بينة وعلى بصيرة مما يدعو إليه، وفيما ينهى عنه، لكن الأمور الظاهرة المعروفة من الدين بالضرورة فهذه يدعو إليها العالم وغير العالم مثلما تقدم، كالتحذير من الزنا.. التحذير من العقوق.. التحذير من قطيعة الرحم.. التحذير من الربا هذا أمر معلوم، كذلك يدعو إلى الصلاة في الجماعة.. يدعو إخوانه، وجيرانه، وأهل بيته، يحذرهم من الغيبة، والنميمة، كل هذه أمور معروفة.
قال الشوكاني معقبا على الآية: قال تعالى: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُـبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، (وفي هذا دليل على أن كل متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده والعمل بما شرعه لعباده) فتح القدير.
قال ابن القيم: (قال الفراء وجماعة (ومن اتبعني) معطوف على الضمير في (أدعو)؛ يعني: ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو. وهذا قول الكلبي قال: "حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكّر بالقرآن والموعظة"، ويقوى هذا القول من وجوه كثيرة.
قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: (إلى الله) ثم يبتدئ بقوله: (على بصيرة أنا ومن اتبعني)، ... والقولان متلازمان فلا يكون الرجل من أتباعه حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه، وقول الفراء أحسن وأقرب إلى الفصاحة والبلاغة...)
وقال الدكتور سعيد القحطاني: (البصيرة هي أعلى درجات العلم... والبصيرة في الدعوة إلى الله في ثلاثة أمور: الأمر الأول:... أن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه... الثاني:... معرفة حال المدعو... الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وقد رسم الله عز وجل طرق الدعوة ومسـالكها في آيات كثيرة...).
قال البخاري: (باب: العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) [محمد: 19]، فبدأ بالعلم)، قوله: (باب العلم قبل القول والعمل)
قال ابن المنير: (أراد [البخاري] به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يُعتبران إلا بـه، فهو متقدم عليهما لأنه مصحّح للنية المصحّحة للعمل)،
وقوله: (فبدأ بالعلم) أي أنه تعالى قال: "فاعلم أنه لا إله إلا الله" ثم قال: "واستغفر لذنبك"، (والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو متناول لأمته.
واستدل سفيان بن عيينة بهذه الآية على فضل العلم... فقال: ألم تسمع أنه بدأ به فقال: "اعلم" ثم أمره بالعمل).