قال تعالي : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْـرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ }
( سبأ10 ) ..
نركز هنا علي ومضات الإعجاز التاريخي, والعلمي, والتربوي في ذكر نبي الله داود عليه السلام ـ في هذه الآية الكريمة, وفي غيرها من آيات القرآن المجيد.
من أوجه الإعجاز في الآية الكريمة:
======================
في الأثر أن داود ـ عليه السلام ـ عاش في أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد وتولي الملك ـ علي جزء من أرض فلسطين ـ في حدود سنة(1012) ق.م, وتوفي في حدود سنة(933) ق.م, وذكر القرآن الكريم له, وقد أنزل هذا الكتاب المجيد بعد وفاة داود ـ عليه السلام ـ بأكثر من(1500) سنة يعتبر من المعجزات التاريخية في كتاب الله, خاصة, وأن كتب الأولين التي أشارت إلي هذا العبد الصالح لم تعتبره نبيا, ولم تذكر من الوقائع التي أوردها القرآن الكريم عنه شيئا, وأثارت حوله ما شوه صورته تشويها شديدا, وهو الذي امتدحه القرآن الكريم في العديد من آياته, وامتدحه ـ المصطفي صلي الله عليه وسلم ـ بقوله الشريف:أفضل الصيام صيام داود, كان يصوم يوما ويفطر يوما, وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا, وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شيء, وكان يشفي بصوته المهموم والمحموم.
جاء ذكر داود ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم ست عشرة(16) مرة علي النحو التالي:
1ـ منها ما وصف المعركة التي انتصر فيها داود علي جالوت.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ *تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ }
[ البقرة:246-252].
2ـ ومنها ما يؤكد أن داود ـ عليه السلام ـ كان نبيا رسولا, آتاه الله ـ تعالي ـ
كتابا اسمه( الزبور).
﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾
( النساء:163).
﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً﴾
( الإسراء55).
3 ـ ومنها ما جاء عن داود ـ عليه السلام ـ أنه لعن الذين كفروا من بني إسرائيل:
﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ ( المائدة78-79).
4 ــ ومنها ما يؤكد أن داود كان من ذرية نوح:
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ ﴾ (الأنعام83 ـ86) ..
5 ـ ومنها ما تحدث عن واقعة تحكيم بين رجلين من قومه قضي فيها داود برأيه, ثم استأذنه ابنه سليمان في قضاء آخر فأيده أبوه علي قضائيه ووصفه بالحكمة:
﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ (الأنبياء78 ـ79) ..
6 ـ ومنها ما يشهد بأن الجبال والطير كانت تسبح مع تسبيح داود ـ عليه السلام ـ وأن الله ـ تعالي ـ قد ألان له الحديد وعلمه كما علم ابنه سليمان منطق الطير, وآتاهما من لدنه علما, كما علمه صناعة الدروع من رقائق حديدية متداخلة متعرجة لا تحد حركة الجسم وتحميه, وكان ذلك من أسباب انتصاراته العسكرية العديدة:
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ ﴾(النمل15 ـ16) ..
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْـرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ ( سبأ10 ـ11) ..
﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ ﴾ (ص17 ـ20) ..
7 ـ ومنها ما يروي أن الله ـ تعالي ـ علم داود ـ عليه السلام ـ ألا يصدر حكما إلا بعد الاستماع إلي الطرفين المتخاصمين وذلك في واقعة ابتلاء تربوية يرويها القرآن الكريم علي النحو التالي:
﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ ( ص21 ـ26)..
وكل واحدة من هذه الوقائع السبع هي معجزة تاريخية في ذاتها, ومعجزة تربوية وعلمية في آن واحد, وذلك للأسباب التالية:
==========================
أولا: إن معظم هذه الوقائع لم تذكرها كتب الأولين.
ثانيا: إن في كل واقعة من هذه الوقائع عددا من الدروس والعبر المستفادة التي لها دورها التربوي الواضح في سلوك كل من يقرؤها أو يستمع إليها.
ثالثا: إن العلم التجريبي يثبت أخيرا أن كل شيء في الوجود
( من الخلق غير المكلف, مثل: الجمادات, والنباتات والحيوانات) له قدر من الذاكرة, والوعي, والإدراك والشعور والانفعال والتعبير,
وإشارة القرآن الكريم إلي أن كلا من الجبال والطير كان يسبح مع تسبيح داود ـ عليه السلام ـ يسجل سبقا واضحا لجميع المعارف المكتسبة بأكثر من ألف وأربعمائة سنة, كما يثبت معجزة علمية واضحة لا ينكرها إلا جاحد, خاصة أن داود ـ عليه السلام ـ كان قد من الله ـ تعالي ـ عليه بصوت فائق العذوبة والجمال ويزيده جمالا مسحة من الوقار والجلال,
فقد سمع رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ صوت أبي موسي الأشعري ـ رضي الله عنه ـ وهو يقرأ من القرآن الكريم بالليل, فقال صلي الله عليه وسلم لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود وإسماعيل الخلق غير المكلف هو درجة من درجات الصفاء الروحي, والإشراق القلبي, والسمو العقلي لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله ـ سبحانه وتعالي ـ
وفي هذا السياق تأتي إلانة الحديد لنبي الله داود عليه السلام ـ خارقة من تلك الخوارق التي وهبها الله ـ تعالي ـ لهذا العبد الصالح والرسول الصادق, كذلك كان من نعم الله ـ تعالي ـ علي عبده داود ـ عليه السلام ـ إلهامه بصناعة الدروع من رقائق وحلقات متداخلة من الحديد لا تثقل الجسم ولا تحول دون حرية حركته, وفي نفس الوقت تحميه من سهام الأعداء وهو ما وصفه القرآن الكريم بتعبير( التقدير في السرد).
ولم يرد في كتب الأولين شيء عن أغلب الوقائع التي أوردها القرآن الكريم عن عبد الله ورسوله داود ـ عليه السلام, والفارق بين كلام الله وكلام البشر أوضح من الشمس في رابعة النهار,
فالحمد لله علي نعمة القرآن, والحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي بعثة خير الأنام ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آلة وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته علي يوم الدين ـ وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين ...