حتى الطائفة الإسلامية التي شذت في أواخر القرن الأول حيث قالت: إن في القرآن ما لم نفهمه ، وهي الطائفة التي عرفت باسم " الحشوية " ، إنما أرادت ألفاظاً لها معانيها ، لكنها لم تفهم ، ومع ذلك فإن الإجماع دحض تلك المقالة وتولى علماء الكلام وعلماء الأصول بيان ما بنيت عليه من إخلال ، وكذلك الذين نزعوا إلى النحلة الباطنية ، فعطلوا دلالة التراكيب ، وأنكروا أن تكون المعاني مستفادة منها بطريق الوضع اللغوي ، والتأليف النحوي والبلاغي ، فجنحوا إلى الإشارات بإبراز الأعداد ، وأسرار الحروف ، وزعموا ذلك علماً خفياً يُتلقى ممن عنده بطريق الوراثة أو الوصاية أو الهبة ، قد اعتبروا معطلين لمعنى الدين ، منكرين لحقيقته ، ملحدين عنه إلى الكفر: لما تقتضيه تلك المقالة من إنكار التبليغ ، والنزول بالتعاليم الشرعية إلى منزلة العدم ، ومدرجة الإباحية ، والزج بالحكمة الدينية في المنهج السلبي ، الذي تذرعت به السفسطة اللاأدرية (¬1) إلى نقض مباني الفلسفة العقلية.
فالقرآن العظيم ، عندنا معاشر المسلمين ، كلام دال على معانيه ، دلالة مأخوذة بالطريق الواضح العادي لدلالة الكلام العربي ، فليس هو على ذلك بمحتاج إلى التفسير احتياجاً أصلياً ، ولكن الحاجة إلى تفسير القرآن إنما هي حاجة عارضة نشأت من سببين:
¬__________
(¬1) 1 اللاأدرية: مذهب فلسفي يوناني قديم مأخوذ من لا أدري.