وقد مكن الإمام البخاري بصنيعه هذا ، لشيعتين من أهل التفسير: شيعة الآثار ، وشيعة الأنظار ، بسبب تقارب ، ومهد لهم طريق تراجع ، إذ حصر الأحاديث المعتد بها في التفسير ، فحكم على ما وراءها بالطرح وعدم الاعتداد ، وزاد فأوقف على ما حصره من ذلك على ما هو صحيح الرفع فوصله ، وعلى ما هو ليس بذلك فأبقاه معلقاً ، وهو الكثير الغالب من تلك الآثار ، وبذلك اتسع مجال النظر والتأويل على نسبة ما ضاق من مجال الأثر والنقل.
ولقد مكن هذا الوضع لكثير من أهل الطريقة العلمية أن يتذرعوا إلى الحط من شأن الطريقة الأثرية ، بنقد أعلامها بأنفسهم ، لما هو شائع بين الناس من ضعيف الأسانيد وسقيمها.
فهذا المتكلم الشهير إبراهيم النظام يقول فيما ينقل عنه الجاحظ: "لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين وإن نصبوا أنفسهم العامة وأجابوا في كل مسألة ، فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية على غير أساس ، وكلما كان المفسر أغرب عندهم كان أحب إليهم ، وليكن عندكم عكرمة ، والكلبي ، والسدي ، والضحاك ، ومقاتل بن سليمان ، وأبو بكر الأصم في سبيل واحدة فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم".
ولا شك في أن للأصول التي تكون عليها المذهب الكلامي القديم مذهب المعتزلة ، تأثيراً قوياً في دفع التفسير العلمي في وجهته قدماً يصادم به التفسير بالمأثور وينال منه.