حكم الإشهاد على الطلاق وآثاره في ميزان الفقه الإسلامي
بقلم : د. عبد الحليم منصور
اختلف الفقهاء في حكم الإشهاد على الطلاق هل وا جب أو مندوب ، وكذا اختلفوا في الأثر المترتب على عدم الإشهاد من ناحية كون هذا الطلاق سنيا أو بدعيا ، وكذا من حيث إعمال هذا الطلاق أو إهماله وعدم الاعتداد به على رأيين :
الرأي الأول : ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية ( ) والمالكية ( ) والشافعية ( ) والحنابلة ( ) وظاهر مذهب الظاهرية ( ) والزيدية ( ) والإباضية ( ) إلى أن الإشهاد على الطلاق ليس واجبا ، وإنما هو مندوب إليه ، ومن ثم فالطلاق الذي لم يشهد عليه المطلق طلاق موافق للسنة ، وواقع ومحتسب من عدد الطلقات التي يملكها الزوج على زوجته .
الرأي الثاني : ذهب الإمامية ( ) ومفهوم كلام الظاهرية ( ) وبعض المعاصرين( ) إلى أن الإشهاد على الطلاق واجب ، وأن الطلاق الذي لم يشهد عليه طلاق بدعي لأن المطلق خالف أمر الله عز وجل في وجوب الإشهاد ، وغير واقع ، وليس محتسبا من عدد الطلقات التي يمكلها الزوج على زوجته .
سبب الخلاف في هذه المسألة :
يبدو لي – والله أعلم - أن سبب الخلاف في هذه المسالة يرجع إلى اختلاف الفقهاء في لفظ الأمر الوارد في قوله تعالى :" وأشهدوا ذوي عدل منكم " هل هو للوجوب أو للندب فمن قال إنه للوجوب قال لا بد من الإشهاد على الطلاق حتى يكون موافقا للسنة ومحتسبا من عدد الطلقات .
ومن قال إنه للندب قال بعدم وجوب الإشهاد على الطلاق وأنه موافق للسنة وإن لم يشهد عليه المطلق ، ومحتسب من عدد طلقاته .
الأدلة والمناقشة :
(أ) أدلة الرأي الأول : استدل الجمهور القائلون بعدم وجوب الإشهاد على الطلاق بما يأتي :
أولا ـ من الكتاب : قوله تعالى :" وأشهدوا ذوي عدل منكم " فهذا الأمر الوارد في الإشهاد على الرجعة والطلاق للندب وليس للوجوب .
قال القرطبي :" قوله تعالى :" وأشهدوا " أمر بالإشهاد على الطلاق وقيل على الرجعة ، والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق .. وقيل وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله :" وأشهدوا إذا تبايعتم " ( )
وقال ابن عبد البر :" والإشهاد على الطلاق ليس بواجب فرضا عند جمهور أهل العلم ولكنه ندب وإرشاد واحتياط للمطلق كالإشهاد على البيع " ( ) كما أنه لم يؤثر نص عن رسول الله e أو صحابته أنهم كانوا لا يوقعون طلاقا أو رجعة إلا بعد الإشهاد عليه مما يدل على أن الأمر في الآية السابقة للندب والاستحباب .( )
ثانيا ـ القياس على البيع : فكما أن الإشهاد علي البيع ليس واجبا فكذلك الإشهاد على الطلاق ليس واجبا وإنما هو أمر للندب والإرشاد لا غير ( )
مناقشة هذا الاستدلال : يمكن أن يجاب على هذا الاستدلال بأننا لا نسلم لكم القياس على البيع لأن البيع من عقود المعاوضات بخلاف الطلاق فإنه يتعلق بالأبضاع حيث يترتب عليه إنهاء عقد الزوج ومن ثم فلا يصح قياس هذا على ذاك . كما أن الاحتياط للفروج يقتضي وجوب الإشهاد على الطلاق .
(ب) استدلال الرأي الثاني : استدل القائلون بوجوب الإشهاد على الطلاق ، وأن الطلاق الذي لم يشهد عليه طلاق بدعي غير واقع بما يلي :
1 ـ قوله تعالى :" وأشهدوا ذوي عدل منكم "
وجه الدلالة : إن قوله تعالى " وأشهدوا " أمر والقاعدة الأصولية أن الأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف وحيث لا صارف له عن الوجوب إلى الندب فيكون الإشهاد على الطلاق شرطا لصحة وقوعه ولا يعتد بالطلاق الذي لم يشهد عليه المطلق .
ومن ثم فمن لم يشهد على الطلاق كان طلاقه للبدعة لأن المطلق خالف أمر الله عز وجل في الإشهاد على الطلاق لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده كما هو الشأن عند الأصوليين . ( )
يقول الشيخ / أحمد محمد شاكر موجها الاستدلال بهذه الآية :" .. والظاهر من سياق الآيتين أن قوله :" وأشهدوا " راجع إلى الطلاق والرجعة معا والأمر للوجوب لأنه مدلوله الحقيقي ولا ينصرف إلى غير الوجوب ـ كالندب ـ إلا بقرينة ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب بل القرائن هنا تؤيد حمله على الوجوب : لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم به الرجل ـ وهو أحد طرفي العقد ـ وحده سواء أوافقته المرأة أم لا … وتترتب عليه حقوق للرجل قبل المرأة ، وحقوق للمرأة قبل الرجل وكذلك الرجعة ويخشى فيهما الإنكار من أحدهما فإشهاد الشهود يرفع احتمال الجحد ويثبت لكل منهما حقه قبل الآخر فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به ومن أشهد على الرجعة فكذلك ومن لم يفعل فقد تعدى حد الله الذي حده فوقع عمله باطلا لا يترتب عليه أثر من آثاره .( )
2 ـ ما أخرجه عبد الرازق عن ابن سيرين أن رجلا سأل عمران بن حصين أن رجلا طلق ولم يشهد قال بئس ما صنع طلق في بدعة وارتجع في غير سنة فيشهد على طلاقه وعلى رجعته . ( )
وهذا يدل على وجوب الإشهاد على الطلاق وإلا كان بدعيا لأن المطلق خالف أمر الله عز وجل في وجوب الإشهاد على الطلاق .
3 – القياس على النكاح : فكما أن النكاح لا ينعقد صحيحا إلا بشهادة ذوي عدل من المسلمين ، فكذا الطلاق ، إذ ليس البدء أولى من الإنهاء ، فكلاهما واجب احتياطا واهتماما بأمر الأبضاع .
الرأي الراجح :
بعد العرض السابق لآراء الفقهاء وأدلتهم في هذه المسالة يبدو لي الأن الأولى بالقبول في هذه المسالة هو ما ذهب إليه القائلون بأن الإشهاد على الطلاق واجب ، وأن الطلاق الذي لم يشهد عليه طلاق بدعي غير معتبر ، وغير واقع ، لأن المطلق خالف أمر الله عز وجل في وجوب الإشهاد على الطلاق .
وهذا هو ما ذهب إليه فضيلة الشيخ محمد الغزالي حيث يقول :" .. وأستطيع أن أضم إلى ذلك رفض الطلاق الذي ليس عليه إشهاد ، فالشاهدان لا بد منهما لقبول العقد والرجعة والطلاق على سواء ، وخير لنا نحن المسلمين أن نقتبس من تراثنا ما يصون مجتمعنا ويحميه من نزوات الأفراد ، أما الزهد في هذا التراث كله فهو الذي فتح الطريق لمحاولات تنصير قوانين الأسرة " ( )
ويقول د/ محمد بلتاتجي :" .. ينبغي أن نضع في اعتبارنا أيضا أن أن تغير الظروف وانتشار الناس وكثرتهم في عصرنا قد أوجبت العمل بالمصالح المرسلة في توثيق كثير من العقود ـ منها عقد الزواج نفسه ـ خشية جحده أو الادعاء فيه مع أنه ليست هناك نصوص خاصة من القرآن أو السنة في وجوب هذا التوثيق الكتابي ، أما الإشهاد على الطلاق والرجعة فهناك النص السابق في القرآن الكريم ومجال الاختلاف في العمل به قاصر على فرضيته أو ندبه وإذ كان الأمر كذلك فقد قوى جانب المصلحة القول بفرضيته في عصرنا ـ وفيما يتلوه من عصور ـ ومن هنا لا يكون القائم على أمور التشريع مخطئا إذا قنن لوجوب الإشهاد على الطلاق وعلى الرجعة عملا بالمصلحة المرسلة التي يؤيدها نص قطعي الثبوت يرى فقهاء معتبرون أن الامر فيه للوجوب " ( )
وهذا ما رجحه بعض المعاصرين بقوله :" وتعليل الإشهاد بأنه يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يرشح ذلك ويقويه ، لأن حضور الشهود العدول ، لا يخلو من موعظة حسنة يقدمونها إلى الزوجين ، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله ..ثم يقول : فيشترط لقوع الطلاق حضور شاهدي عدل ، لما في ذلك من تضييق دائرة الطلاق التي اتسعت الآن كثيرا ، وأصبح الزوج يطلق زوجته لأقل غضبة وأتفه سبب .( )
وبناء على ما تقدم فإنه يترجح عندي القول بوجوب الإشهاد على الطلاق تضييقا لنطاقه وحفاظا على كثير من البيوت من الانهيار لا سيما وأن في القرآن الكريم والسنة النبوية ما يؤيد هذا الاتجاه ، لاسيما وأن هذا يتفق ومنهج الشارع الحكيم في التضييق من أمر الطلاق بضرورة إيقاعه في وقت معين ، وبعدد معين ، وبحضور شاهدي عدل ، وإذا لم تراع هذا الأمور لم يكن لتضييق الشارع معنى ، وكان عبثا ، وهذا ما يجب تنزيه الشارع الحكيم عنه .
ويجري العمل في مصر على أنه يجب على الموثق ( المأذن ) أن يجري الطلاق بحضور شاهدين ، يوقعان على وثيقة الطلاق ، لكن الزوج لو طلق زوجته ، دون توثيق فإن طلاقه يكون واقعا دون إشهاد ، عملا بالراجح في الفقه الحنفي .
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل تدخل المشرع بتقييد إرادة المطلق وإهمال عبارته في بعض الأحيان يصطدم مع الشرع الحنيف ومقاصده ؟
الذي يبدو لي أن المشرع عندما يتدخل لتقييد إرادة المطلق كي يتغيا الحفاظ على الأسر من الانهيار ، والأولاد من الضياع ، والحقوق من أن تهدر ، فهو بذلك يتفق مع قصد الشرع الحنيف ، وهذا ما فعله سيدنا عمر رضي الله عنه عندما أمضى طلاق الثلاث حفاظا على البيوت ، ومنعا للألسنة من الثرثة بكلمة الطلاق ، وهو ما فعله المشرع في القرن الماضي في القانون رقم 25 لسنة 1929 م في الطلاق المعلق ، واليمين في الطلاق ، وطلاق المكره ، والغضبان ، حيث كان العمل على وقوع الطلاق السابق عملا بمذهب الحنفية ، وخالف المشرع المذهب الحنفي وعمل بمذهب الجمهور في بعض المسائل ، وبغيره في مسائل أخرى ، كل ذلك بهدف الحفاظ على الأسر .
ونظير ذلك فيما يبدو لي – في المسائل الاجتهادية - مسألة التقاط ضوال الإبل ، فقد كان الأمر في أيام النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، النهي عن التقاطها ، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن ضالة الإبل قال : ما لك ولها ؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها قال يحيى أحسب قرأت عفاصها " وتتجلى حكمة النهي عن التقاط ضوال الإبل في الحفاظ على مقصد من مقاصد الشرع هو الحفاظ على المال لاسيما وأن الذمم لا تزال بخير ، فلما جاء عهد سيدنا عثمان ، وضعف الوازع الديني ، أمر بالتقاط ضوال الإبل لنفس الغاية التي تغياها النبي في النهي الأول ، وهو الحفاظ على المال ، وكان الأمر بالتقاطها حفاظا عليها من أن تطالها الأيدي العابثة ، على هذا النحو يجب أن تفهم هذه المسألة وغيرها من المسائل الاجتهادية ، التي يجتهد فيها الفقهية في فهم مناط الحكم ، ومدى وجوده ، أو تخلفه ، لاسيما وأنه يهدف بذلك إلى الحفاظ على مقاصد الشرع والدين .
لذا فإنني أقترح على المشرع المصري وكذا في سائر الدول العربية إضافة مادة إلى قانون الأحوال الشخصية ويكون نصها كالتالي :
" يجب على من يريد أن يطلق امرأته أن يكون طلاقه بحضرة شاهدي عدل وأن يكون بحضرة الموظف المختص ( المأذمون ) ويكفي أن يشهدا أمامه بالطلاق "
وبإضافة هذه النص فإنه سيؤدي إلى التقليل من إيقاع الطلاق في المجتمع وهذا ما يبتغيه الإسلام من الحفاظ على البيوت من الانهيار وضياع الأبناء وتشريدهم فإذا أراد الرجل طلاق امرأته فعليه أن يتحرى الوقت المناسب لذلك الذي أمر الله عز وجل بالطلاق فيه وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه وأن يحضر ذوي عدل من المسلمين ثم يطلقها طلقة واحدة فإن كان ذلك بحضرة الموظف المختص كان أولى وإلا فالطلاق صحيح ونافذ ويكفى أن يشهد الشاهدان بالطلاق أمامه ليقوم بتوثيق هذا الطلاق .
والله أعلم