أنور إبراهيم النبراوي
@AnwarAlnabrawi
@AnwarAlnabrawi
مقدمة:
اتحدت سورة الفلق وسورة الناس في الفضل وفي سبب النزول، وكلتاهما افتتحت بالاستعاذة بالرب سبحانه وتعالى.
مناسبتها لما قبلها:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾
﴿قُلْ﴾ أيها الرسول جازما ومستيقنا ﴿أَعُوذُ﴾ أي: أتحصن وألوذ وأستعين وألتجئ وأعتصم ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ بخالق الناس ورازقهم، الذي أوجدهم من العَدَم, وأمدهم بالنِّعم, مُدبِّر أمورهم، ومُصلح أحوالهم. وخصَّ النَّاس هنا دون غيرهم من المربوبين؛ تشريفًا لهم، كما خصهم به من أنواع التكريم, وأخدم لهم تعالى ملائكة قدسه؛ ولأن العدو متربص بالناس، والشر المستعاذ منه مصبُّه إلى الناس حيث تُلقي الشياطين الوساوس في قلوب الناس فيَضِلُّون ويُضِلُّون.
﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾
هو سبحانه الملك الحق، الغني عن الخلق، الذي له السلطة العليا في الناس، وله الملك الكامل، والتصرف الشامل، الذي له الأمر النافذ في خلقه، ينفذ فيهم أمره وحكمه، كيف شاء، ومتى شاء؛ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 26). وضع للناس الشرائع والأحكام، التي فيها سعادتهم في معاشهم ومعادهم.
﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾
الإله: هو المعبود الجامع لجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال. فيدخل في هذا الاسم: جميع الأسماء الحسنى. فالله هو مألوه الناس، الذي تألهه القلوب بعظمته، وهم لا يحيطون بكنه سلطانه، تألهه الخلائق وتحبه وتعظمه، وهو معبودهم الحق، وملاذهم إذا ضاق بهم الأمر، المقصود بالإرادات والأعمال كلها, لا معبود بحق سواه عز وجل.
وقد رُتِّبت أوصافُ الله في الآيات ترتيباً بديعاً في غاية الرَّوعة، يتدرج معه العقل؛ ليُسلمه بلطف إلى القناعة التامة بأن من هذه صفاته هو الإله الحق، المقصود بالعبادات والحوائج, فالله هو خالقهم ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾، وهم مملوكين له، غير خارجين عن حكمه إذا شاء أن يتصرف بالعبادات والحوائج في شؤونهم ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾، ثم أعقب ذلك بذكر إلهيته لهم ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾؛ ليتبين أن ربوبيته لهم وحاكميته فيهم ليست كربوبية بعضهم لبعض, وما دام الرب قد يكون ملكا وقد لا يكون, كرب الدار ورب المتاع, بين أنه ملك الناس، وأيضا الملك قد يكون إلها وقد لا يكون، فبين أنه هو وحده إلههم، كما أنه هو وحده خالقهم ورازقهم وملكهم, فجمعت السورة ثلاث صفات عظيمة لله: الربوبية والملك والإلهية؛ ليستعيذ العبد بمجموع هذه الصفات، وكأنها صفة واحدة.
وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب، وأخر الإلهية لخصوصها؛ لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحَّده، واتخذه دون غيره إلها، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكنه ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره.
ووسَّط صفة الملك بين الربوبية والإلهية؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، فهو المطاع إذا أمر، وملكه سبحانه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكه من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها، فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق, وهكذا تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديرًا بأن يُعاذ ويُحفظ، ويُمنع من الوسواس الخناس، ولا يُسلَّط عليه، فلذلك أمر المستعيذ أن يستعيذ بها, وفيه إيماء إلى أن الله تعالى مُعيذه وعاصمه حينئذ من ذلك المستعاذ منه.
و(الناس) اسم جمع للبشر جميعهم، واحده إنسان, مأخوذ من الأُنس ضد الوحشة؛ إذ هو مدني بالطبع، قد جبله الله على الأنس ببني جنسه، أو لأنسه بربه.
﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾
من أذى الشيطان الموكل بالإنسان الذي يوسوس عند الغفلة، ويختفي عند ذكر الله, لم يقل الشيطان ولكن الوسواس؛ لأن الوسوسة هي أبرز صفة للشيطان وأخطرها وأضرها على الإنسان، والوسوسة: هي الكلام الخفي الذي يلقيه الشيطان في قلب العبد؛ من الأفكار والأوهام والتخيلات التي لا حقيقة لها، فما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزين له الفواحش، ولا يألوه جهدًا في الخبال، جاء عن أنس رضي الله عنه في قصة زيارة صفية للنبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»([1]). وإن المعصوم هو من عصمه الله وأعانه على الشيطان،
قال صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ» قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ»([2]).
وحقيقة الخنوس: اختفاءٌ بعد ظهور، ولما كانت الكواكب تظهر ليلاً وتختفي نهاراً قال الله عنها: ﴿فلا أقسم بالخنس﴾ (التكوير: 15)، والخنوس: الرجوع إلى الوراء, قال أبو هريرة رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ المَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ» ([3]).
فالخناس مأخوذ من هذين المعنيين؛ من الاختفاء والرجوع والتأخر، وهو حال الشيطان الذي يختبئ وينهزم ويولي ويدبر عند ذكر الله عز وجل, فإذا غفل العبد عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان وانبسط عليه، وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها، أما إذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس الشيطان وانقبض وتوارى, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى»([4]).
ثم لما ذكر وسوسة الشيطان ذكر محل تلك الوسوسة فقال تعالى:
﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾
يعلم الشيطان أهمية القلب وخطره على جوارح الإنسان فهو ملك الأعضاء جميعا، قال أبو هريرة رضي الله عنه: "الْقَلْبُ مَلَكٌ وَلَهُ جُنُودٌ، فَإِذَا صَلُحَ الْمَلِكُ صَلُحَتْ جُنُودُهُ، وَإِذَا فَسَدَ الْمَلِكُ فَسَدَتْ جُنُودُهُ"([5]).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»([6]).
وقد جعل الله للشيطان دخولاً في قلب العبد ونفوذاً إلى صدره, فيبثُّ الشر ويلقي الشكوك فيه, بالدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب, فيحَسِّن لهم الشر ويريهم إياه صورة حسنة، وينشّط إرادتهم لفعله، ويقبِّح لهم الخير، ويثبطهم عنه، ويريهم الخير في صورة غير صورته.
وأول ما يدعو إليه الشيطان وأخطره: الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله فإذا ظفر بذاك وإلا انتقل إلى المرتبة الثانية وهي البدعة التي هي أحب إلى الشيطان من المعصية؛ فالمعصية يرجى أن يتوب العبد منها فتكون كالعدم، والبدعة يرى صاحبها أنها صحيحة فلا يتوب منها, ومتى عجز عنها انتقل إلى مرتبة الكبائر، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى الصغائر، فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى إشغال العبد بالمباحات التي تفوّت عليه الثواب، فإن عجز أشغله بالعمل المفضول عن الفاضل ([7]).
فينبغي للعبد أن يستعين ويستعيذ ويعتصم بربوبية الله وملكه للناس كلهم، فكل دآبة هو آخذ بناصيتها، وبألوهيته التي خلقهم لأجلها، فلا تتم لهم إلا بدفع عدوهم الذي يريد أن يقطعهم عنها، ويحول بينهم وبينها، ويريد أن يجعلهم من حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
وتأمل السر والحكمة في قوله: ﴿يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾، ولم يقل: في قلوب الناس؛ فالصدر هو ساحة القلب وبيته، ومنه تدخل الواردات عليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب، ومن القلب تخرج الإرادات والأوامر إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود, فالوسوسة إذن في الصدور كما أن الخواطر في القلب، والقلب مما حواه الصدر، لذا يقال: إن الشك يحوك في صدره.
والوسوسة نوعان:
نوع من الجن، قال تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ (الأعراف: 20)، ونوع من نفوس الإنس. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ (ق: 16)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ، أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ»([8]).
فالشر من الجهتين: وسوسة النفس ووسوسة الشيطان، فما كرهته نفسك لنفسك فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه، وما أحبته نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنه ([9]).
واعلم أن القلب مثاله كحوض تصبُ فيه مياه من أنهار شتى، وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال، إما من الظاهر فالحواس الخمس، وإما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئًا حصل منه أثرٌ في القلب، وكذلك إذا هاجت الشهوة، وإن كف عن الإحساس، فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر.
والخواطر ما يحصل في القلب من الأفكار والأذكار وغيرها، إمّا على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر، فهي تخطر في القلب بعد أن كان غافلا عنها. والخواطر هي المحركات للإرادات، وهي مبدأ الأفعال، فإن الخاطر يحرِّك الرغبة، والرغبة تحرِّك العزم، والعزم يحرِّك النية، والنية تحرِّك الإرادة، فتتحرَّك الأعضاء للأفعال.
والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو للشر ويضر في العاقبة. وإلى ما يدعو إلى الخير وينفع في الدار الآخرة.
فالخاطر المحمود يسمى إلهاما: وهو ما ألقي في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنه تَقْوى لله، وسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكًا، واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقًا.
والخاطر المذموم، يسمى وسواسًا, وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا. والذي يتهيأ به لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواءً وخذلانًا، وشأن الشيطان الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف بالفقر عند الهم بالخير.
ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر الله عز وجل؛ لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان من قبل. وكل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به، يجوز أن يكون مجالا للشيطان.
أمّا ذكر الله هو الذي يُؤْمَن جانبه ويُعْلَم أنه ليس للشيطان فيه مجال. ولا يُعالج الشيء إلا بضده. وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبرؤ عن الحول والقوة، وهو معنى قولك: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ولا يقدر عليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى.
وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201).
والشيطان لا يُتصوَّر أن ينفك عنه آدمي، وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته. أعاذنا الله منه.
﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾
وهذا بيان لمن يقوم بالوسوسة في صدور الناس؛ وهم شياطين الجن والإنس.
وأصل (جنَّ)؛ من ستر الشيء عن الحاسة يقال: جنَّ الليل: أي استتر: قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾ (الأنعام: 76)، ومنه الجَنَان: وهو القلب؛ لكونه مستورا عن الحاسة، والِمجنّ: وهو الترس الذي يَجُنُّ صاحبه: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾ (المجادلة: 16)، والجنين: وهو الولد ما دام في بطن أمه: ﴿وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ (النجم: 32)، والجنون: حائل بين النفس والعقل: ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ (سبأ: 46)، وفي الحديث: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ»([10]).
والجَّنَّة: كل بستان ذي شجر يُستر بأشجاره الأرض: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ﴾ (الكهف:39). هذا في الدنيا وفي الآخرة الجنة: نعيم المؤمنين ذات القصور والأنهار والأشجار والنعيم المستور الذي جعله الله خفيّاً: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ (السجدة:17).
والجِنَّة في الآية: جماعة الجن: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا﴾ (الصافات: 15)، وقوله: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ (الحجر: 27). وشيطان الإنس يريهم نفسه كالناصح المشفق، فيوقع في الصدور من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان الجني بوسوسته.
وقدَّم (الجِنّة) على (الناس) هنا؛ لأنهم أصل الوسواس؛ بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ (الأنعام: 112)، لأن خبثاء الناس أشد مخالطة وأذى للأنبياء من الشياطين، فإن الله عصم أنبياءه من تسلط الشياطين على نفوسهم.
ولما كانت مضرّة الدين، وهي آفة الوسوسة أعظم من مضرّة الدنيا وإن عظمت، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث: الرب، والملك، والإله، وإن اتحد المطلوب, وهذا يدل على شدة خطورة المستعاذ منه، وهو مبعث كل فتنة ومنطلق كل شر عاجلًا أو آجلًا، وهو مرتبط بتاريخ وجود الإنسان.
وفي سورة الفلق أمر سبحانه بالاستعاذة من شر ثلاث؛ الغاسق، والنفاثات، والحاسد، بصفة واحدة وهي الربوبية، بينما في هذه السورة أمر بالاستعاذة من شر واحد، وهو الوسواس الخناس، بثلاث صفات؛ الربوبية والملك والألوهية؛ وذلك لأن المستعاذ منه في سورة الفلق أمور تأتي من خارج الإنسان، وقد تكون شرورًا ظاهرة، يمكن التحرز منها، أو اتقاؤها قبل وقوعها، وتجنبها إذا علم بها. بينما الشر الواحد في هذه السورة يأتي الإنسان من داخله، بهواجس النفس وما لا يقدر على دفعه إلا بالاستعاذة بالله، إذ الشيطان يرانا ولا نراه: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ (الأعراف: 27).
وأول جناية وقعت على الإنسان، إنما هي من هذا الوسواس الخناس، فوسوس إلى الأبوين- عليهما السلام-، ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ* فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (الأعراف: 21، 22)، فأُهبطوا من الجنة جميعًا، بعضهم لبعض عدو, ثم بعد سكناهما الأرض أتى ابنيهما قابيل وهابيل فوسوس لأحدهما حتى طوعت له نفسه قتل أخيه، ﴿فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (المائدة: 30).
وكذلك أعداء المسلمين والبشرية، حيث علموا وأدركوا أن أخطر سلاح على الإنسان هو الشك، ولا طريق إليه إلا بالوسوسة، فأخذوا عن إبليس مهمته، وذهبوا يوسوسون للمسلمين في دينهم وفي دنياهم، ويشككونهم في قدراتهم على الحياة الكريمة، وفي قدراتهم على التقدم والإبداع والاختراع والاستقلال عن الكافرين.
ليظل المسلمون في فَلَكِ التقليد والتَبعِّية ذات الحلقات المفرغة، وفي دائرة الضعف والشك، وصاحب الشك في حيرة وشتات، ولا يتقدّم إلى الأمام، ما يبنيه اليوم يهدمه غدا.
وطرق النجاة من الوسوسة أو التشكيك العزم واليقين والمضي دون تردد: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ (آل عمران: 159). بالصبر، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: 35)، ثم بالتورع عن الشبهات، قال صلى الله عليه وسلم : «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»([11])، ثم إن كان العدو من الإنس فبالإحسان إليه، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: 34). أو من شياطين الجن بذكر الله والاستعاذة،
قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (فصلت: 36)، فإن شيطان الجن يندفع بالاستعاذة بالله منه، ويكفيه ذلك؛ لأن كيد الشيطان كان ضعيفًا.
***
أنور إبراهيم النبراوي
باحث في الدراسات القرآنية والتربوية
ومستشار أسري
Twitter: @Anwar Alnabrawi
E-mail: Aidn1224@gmail.com
([2]) أخرجه مسلم (2814) من حديث عبدالله بن مسعود.
([3]) أخرجه البخاري (283), ومسلم (371).
([4]) أخرجه البخاري (608), ومسلم (389).
([5]) أخرجه البيهقي في الشعب (108)، وقال: هكذا جاء موقوفًا.
([6]) أخرجه البخاري (52), ومسلم (1599).
([7]) انظر بدائع الفوائد لابن القيم (2/260).
([8]) أخرجه البخاري (6664), ومسلم (127) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([9]) انظر تفسير القاسمي (9/581).
([10]) أخرجه البخاري (7492).
([11]) أخرجه أحمد (1723), والترمذي (2518)، وقال: صحيح, والنسائي (5711), وصححه الألباني في المشكاة (2773).