نفس السبب الذي تعلق به الأستاذ الإمام محمد عبده في معارج حكمته وكانت خيبة التجربة التي ابتدآها في باريس: وهي تجربة إرجاع المسلمين إلى السيرة الأولى عن طريق الإصلاح السياسي ، خيبة محدثة في نفس الشيخ محمد عبده عبرة ودرساً لم يصداه عن متابعة طريق الوصول إلى التغيير المقصود بل زاداه تصميماً على إدراك الغاية ، واقتناعاً بأن الذي وضعت عليه اليد في باريس ليس مكمن الداء الأصلي ، ولا محل العلاج المطلوب بالتغيير.
وإنه إذا كان بالمسلمين فساد في الوضع السياسي ، أفليس في هدى القرآن ، الذي هدى من كان قبلهم ممن هم أجهل منهم وأضل ، ما هو كفيل بإصلاح ذلك الفساد ، فما بال الأولين اهتدوا بهدى الكتاب المبين فأصلحوا ما بهم من فاسد ، وقوموا ما بهم من منحرف وهؤلاء الآخرون عجزوا عن إصلاح فسادهم ، وعلاج دائهم ، مع أن الدواء الذي عالج أوائلهم بالأمس موجود بين يديهم اليوم ، فكانوا كالذي يتجرع الغصص من آلامه ، والدواء في بيته ، وهو لا يتناوله.
كان القرآن حينئذ ، على ما رآه الشيخ محمد عبده ، الدواء الشافي للمسلمين مما هم فيه ، ولكنهم لا يتناولونه ، فأين اليد التي تقرب من هذا المريض دواءه ، وتناوله إياه.لا جرم أنها لن تكون إلا يد التعليم الصحيح للإسلام ، والتفسير الحكيم للقرآن.
دخل شيخنا محمد عبده على هذا اليقين إلى بيروت ، فصادفها تغلي بحركة إصلاحية إسلامية ، كان قد ألهبها فيها المصلح التركي ، أبو الأحرار: مدحت باشا وقد كان والياً عليها ، وأزكى لهيب تلك الحركة حرص المسلمين على مجاراة المسيحيين في نهضتهم التعليمية ، التي مهد مسالكها في وجوههم ما كانوا متحللين منه مما بقي يربط المسلمين بالدولة العثمانية من روابط.