مقاصد سورة ال عمران
سورة آل عمران
هدف السورة :الثبات
سبب التسمية : سميت السورة بآل عمران لورود ذكر قصة تلك الأسرة الفاضلة آل عمران، وعمران هو والد مريم أم عيسى، وما تجلى فيها من مظاهر القدرة الإلهية، بولادة السيدة مريم البتول وابنها عيسى عليهما السلام. اهـ. صفوة التفاسير
التصنيف : مدنية
آياتها :200
أسمائها : آل عمران، الزهراء، الكنز، طيبة، الأمان، المعينة، المجادلة، الاستغفار
فضل السورة
في صحيح مسلم، عن أبي أمامة: قال سمعت رسول الله يقول: «اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران» وفيه عن النواس بن سمعان: قال سمعت النبي يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران» وروى الدارمي في مسنده: أن عثمان بن عفان قال: «من قرأ سورة آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة» وسماها ابن عباس، في حديثه في الصحيح، قال: «بت في بيت رسول الله فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران».
مقاصد السور
د. محمد عبد العزيز الخضيري
حديثنا حول سورة آل عمران هذه السورة العظيمة الكريمة التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم مع سورة البقرة بالزهراوين قال :اقرأوا الزهراوين فإنهما يأتيا يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صوافّ تحاجان عن صاحبهما والأحاديث الواردة في فضلها صحيحة وكثيرة ومرغّبة للإنسان في أن يستمسك بها ويعتني بها ويحرص على تلاوتها وحفظها.
هذه السورة الكريمة فيها قضايا كثيرة جدًا لكن أبرز هذه القضايا هي قضية التوحيد والذي يدلل على ذلك:
- أنها افتتحت بالتوحيد قال الله عز وجلّ (الم ﴿١﴾ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴿٢﴾) فافتتحها الله عز وجلّ بكلمة التوحيد وهي قوله (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وهذه الكلمة لم ترد في سورة مثلما وردت في سورة آل عمران فقد جاءت في خمس مواطن بينما في سورة النساء جاءت في موطن واحد (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴿٨٧﴾). في سورة آل عمران جاءت في خمس مواضع:
- (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
- وفي نفس السياق في الصفحة الأولى يقول الله عز وجلّ (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٦﴾)
- ثم جاءت في آية أخرى مرتين (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ
- لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿١٨﴾)
- وجاءت مرة خامسة في قوله جلّ وعلا (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٦٢﴾)
هذه الآيات كلها في التوحيد الخالص، هذا واحد من الشواهد على أن هذه السورة سورة التوحيد.
- أما الشاهد الثاني فهو ورود كلمة الاسلام، لم ترد في القرآن في سورة بمثل العدد الذي وردت فيه في هذه السورة الكريمة (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿١٩﴾ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴿٢٠﴾) وقال سبحانه وتعالى (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿٥٢﴾) (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿٨٥﴾) وغيرها من المواطن التي وردت في هذه السورة ويراد بالاسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك.
- ومما يدلل على أن هذه السورة سورة التوحيد وأنها اعتنت بهذا الأمر عناية بالغة أنها سميت سورة آل عمران فما دلالة آل عمران على التوحيد؟
- نقول هذه السورة في أكثر من مائة آية جاءت في حوار النصارى ومناقشتهم في القضية الكبرى التي أخلّوا فيها بإسلامهم وهي قضية تأليه عيسى أو ادعاء أنه ابن لله عز وجلّ فالله عز وجلّ لما أنزل هذه السورة نص فيها على هذه الأسرة الكريمة وهي أسرة آل عمران ليقول لك إن عيسى ينتمي إلى سلالة بشرية معروفة كما تعرف سائر السلالات البشرية والأُسر الإنسانية المبثوثة في هذه الأرض فهناك أسرة يقال لها آل عمران منهم عيسى هذا الذي أنتم ادعيتم أنه ابن الله فهو من سلالة بشرية معروفة. فهو يرمز باسم السورة فلم يسمّها سورة الحيّ أو أُحد أو أيّ اسم آخر وسماها آل عمران للرد على النصارى بأن عيسى الذي تدعونه إلها أو ابنا لإله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا هو بشر كسائر البشر (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴿٥٩﴾) فإن كنتم تستغربون من عيسى وترون أنه ظاهرة مختلفة عن سائر البشر فأبونا آدم أشد غرابة لأن آدم لم يكن له أبوان وعيسى كان له أم من دون أب.
- ومما يؤكد أن هذه السورة سورة التوحيد معنى بلاغي في غاية الدقة وهو ما يسمى في البلاغة عند علماء البلاغة والبيان رد العجز على الصدر بمعنى أن المتحدث يبدأ بكلام يشير فيه إلى ما يريد أن يتحدث عنه ثم يختم كلامه بالعَوْد على الموضوع الأساس الذي بدأ به حديثه فيسمون هذا رد عجز الكلام على صدره أي أوله والقرآن كله بُني على هذه القاعدة البلاغية. فإذا نظرت إلى السبع الطوال أو السبع سور الأولى التي افتتح بها القرآن والسبع القصار التي ختم بها القرآن تجدها هكذا
- مثال: سورة الفاتحة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿١﴾ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٢﴾ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿٣﴾ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴿٤﴾) فجاء اسم الله والرب ومالك وآخر سورة في القرآن (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿١﴾ مَلِكِ النَّاسِ ﴿٢﴾ إِلَهِ النَّاسِ ﴿٣﴾) الأسماء الثلاثة الموجودة في سورة الفاتحة أعيدت في سورة الناس.
- سورة البقرة ذكر فيها قضية السحر والحسد بشكل واضح ولذلك من أعظم ما يُرقى به المسحور والمحسود سورة البقرة يقابلها سورة الفلق (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴿١﴾مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴿٢﴾ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ﴿٣﴾ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴿٤﴾ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴿٥﴾). إذا نظرت إلى سورة آل عمران (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴿٢﴾) يقابلها في آخر القرآن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾)
مواضيع السورة
هذه السورة فيها موضوعان أساسيان:
- الموضوع الأول هو قضية الحوار مع النصارى وقد نزلت آياتها الأولى في مناظرة النصارى ومجادلتهم ومحاجتهم عندما جاء وفد نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه السورة ليقيم الحجة عليهم في أعظم أمر أخلّوا فيه وهو قضية تأليه عيسى عليه الصلاة والسلام وادّعاء أنه إله أو ابن إله تعالى الله عما يشركون فجاءت هذه السورة لتفن هذا تمام عيسى من البشر وتحكي قصته من البداية (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿٣٣﴾ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿٣٤﴾) ثم تأتي بالقصة وكيف جاءت مريم وكيف تفرّغت مريم للعبادة ثم إن الله عز وجلّ كفلها زكريا ثم إن الله عز وجلّ جعل لها هذه الآية العجيبة وهي أن يخلق عيسى في جوفها من غير أب. ثم يقوم عيسى بدوره الذي أناطه الله به وهو القيام بالتوحيد وأنه عبد لله عز وجلّ كما في قوله جلّ وعلا لما قال لبني إسرائيل مبينا حقيقته (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿٥٠﴾ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿٥١﴾) ثم بدأت الآيات تناقشهم وتحاورهم إلى أن وصل الحوار إلى مرحلة المباهلة وهي أن تدعو خصمك الذي لم يقبل بحجتك وتقول أنا متأكد أن حجتي بالغة وأنها قد مامت عليك وأن الذي يمنعك من قبولها هو الكبر وعدم الرضوخ للحق وإلا فبأيّ حق تدّعي لبشر أنه إله تعالَ تدعو عليّ وأدعو عليك، قال الله عز وجلّ (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴿٦١﴾) أدعو أنا على نفسي بأني إن كنت كاذبًا في ما ادّعيته في حق عيسى أن يجعل الله عليّ لعنته وأنتم تقولون ذلك ثم نفذ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بنفسه فدعا فاطمة وعليا والحسن والحسين وقال للنصارى الذين جاؤوه من نجران: اخرجوا نبتهل فاجتمعوا وقالوا والله إنا نخشى أن تصيبنا هذه المباهلة بباقعة فلا تبقى منا نفس منفوسة بل ارضوا بمصالحة محمد وادفعوا له الجزية وهذا يدل على أنهم كانوا يعلمون أن الحق كان معه وأن الآيات التي أنزلها الله من سورة آل عمران قد أبلغت في الحجة وقطعت دابر أي شبهة لديهم ولذلك قال الله لهم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿٦٤﴾) تجلّت هذه القضية بهذا الوضوح وهو قضية التوحيد في أكثر من مائة آية.
- بعد هذا كله لما بيّن الله عظمة التوحيد وأهميته وأقام الحجة عليه بدأ يذكر مستلزمات هذا التوحيد ومن أهمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولاء والبراء والجهاد في سبيل الله، إذا كنت موحدًا لله حقًا فإنك ستقوم لله عز وجلّ بأمره بأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتوالي وتعادي في الله وتجاهد في سبيل الله وهذا ما جاء بعد ذكر التوحيد فبعدما ذكر الله هذه القضايا قال للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴿١٠٢﴾ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿١٠٣﴾ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿١٠٤﴾) ثم قال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿١١٠﴾) ثم بعدما انتهى من هذا ذكر قضية الولاء والبراء في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) لا تتخذوا أعدائي الذين يشركون بي بطانة تجعلونهم وزراء ومستشارين عندكم فإن هذا يتعارض مع أصل التوحيد، الولاء والبراء فرع عن التوحيد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) يودون عنتكم والمشقة التي تنزل عليكم قال الله عز وجلّ (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١١٨﴾ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿١١٩﴾) هذا الأمر الثاني. والأمر الثالث الجهاد وجاءت صورة الجهاد في غزوة أحد قال الله عز وجلّ (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿١٢١﴾) الجهاد لا يستقيم إلا على عامود التوحيد، هو ذروة سنام الإسلام لكن قبله ذروة السنام يقوم على أشياء أهمها وأعظمها وأجلّها التوحيد لأنه لا جهاد إلا بتوحيد والجهاد كله من أجل التوحيد وإراقة الدماء وقتل النفوس إنما يكون لأجل هذه الكلمة لا إله إلا الله ولا يمكن أن يبذل الإنسان نفسه ويهجم في ميدان المعركة وفي ساحة الوغى إلا وقد امتلأ قلبه بالتوحيد ولذلك جاءت هذه السورة لتعبر عن هذا المعنى وهو قصة غزوة أحد التي قال الله عز وجلّ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿١٢٣﴾) ثم ذكرت بما حصل في بدر ثم قال الله عز وجلّ (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿١٣٩﴾ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي في أُحد (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴿١٤٠﴾ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴿١٤١﴾ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴿١٤٢﴾ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴿١٤٣﴾ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) لا يجوز لكم أن تعلّقوا دينكم بوجود النبي صلى الله عليه وسلم فالرسول قد بلّإ الرسالة وأدّآ الأمانة، أنتم تتعلقون بالله (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴿١٤٤﴾). ثم يضرب الله عز وجلّ لهم مثلا ممن سبقهم من الأمم التي ثبتت وصبرت على دينها مع شدة ما أصابها من اللأواء قال (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴿١٤٦﴾ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿١٤٧﴾ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿١٤٨﴾). ثم يعود ليعقد صلة بين ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في جهادهم فلا يتشبهوا بالكافرين ولا يطيعوهم ولا يسمعوا لهم لأن هؤلاء الكافرين لا يبتغون لنا إلا العنت والمشقة والذل والهزيمة والخيبة والخسران (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴿١٤٩﴾ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ﴿١٥٠﴾) تعلّقوا بالله. ثم تستمر الآيات على هذا المنوال إلى أن قال الله عز وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿١٥٦﴾) وما تزال الآيات على هذا المنوال تجري وتأتي بأنواع من الدروس والعبر المتصلة بقضية الجهاد وما ينبغي للمسلمين أن يكونوا عليه من الآداب وإذا هزموا أن يعرفوا من أين جاءتهم الهزيمة (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٦٥﴾)
عادت السورة مرة أخرى إلى التوحيد (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿١٨١﴾) ثم قال بعدها (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴿١٨٧﴾) وهو رد على أهل الكتاب في كتمانهم العهد والميثاق الذي أخذه الله عليهم، ثم ذكر دلائل التوحيد بقوله (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٨٩﴾ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴿١٩٠﴾ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿١٩١﴾)
ويذكر صفات هؤلاء المؤمنين المتعلقون بالله عز وجلّ الذين يدعون الله ويتوسلون إليه بإيمانهم وتوحيدهم (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴿١٩٣﴾)
ثم يذكر الله سبحانه وتعالى ماذا أعطاهم فيقول الله (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴿١٩٥﴾)
ثم يقول الله لنا في موضوع جاء في أول السورة وهو أن لا نغتر بالذين كفروا ولا بأموالهم ولا بما آتاهم الله من زينة الحياة الدنيا، جاءت في أول السورة وفي أوسطها وفي آخرها في قوله (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴿١٩٦﴾) أكثر ما يغري الناس بحياة الكفار هو هذه السعة والبسطة في الرزق والمال والرغد في العيش والتنظيم في الحياة هذا يفتن الناس فالله يقول احذروا أن تدعوا هذا التوحيد والاستمساك بالدين والأمر بالمعروف والولاء لله والبراء لله والجهاد في سبيل الله اغترارا بما عند الكفار من نعيم الدنيا (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ﴿١٩٦﴾ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿١٩٧﴾) ثم يغريك بالجنة (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴿١٩٨﴾)
ثم يقول مبيّنًا حقيقة عظيمة ومُنصِفة أن أهل الكتاب ليسوا على شاكلة واحدة بل منهم من رضي بالإسلام دينًا ووحّد الله عز وجلّ قال (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿١٩٩﴾). ثم ختمت هذه السورة بهذا الأمر العظيم الذي يلزم كل مؤمن حتى يلقى الله عز وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٢٠٠﴾)، وبهذا انتهت هذه السورة الكريمة المكونة من مئتي آية وقد نزلت كلها في المدينة.