الاعجاز في مصدر المياه التي في الارض
إعداد محمد ترياقي
مهندس مقيم في كندا
عندما نُشاهد كميّات الماء المُتواجدة في المحيطات والبحار وفي جوف الأرض وفي الينابيع والأودية والبرك والبحيرات وفي جبال الثلج المتجمدة وحتى في السُحب العابرة، نتسائل كيف ومن أين جاءت هذه الكميّة الهائلة من الماء إلى كوكبنا الأرضي؟ فجعلته كوكبا متميّزًا عن غيره بحياة تنبض فيه منذ ما يزيد عن ثلاثة مليارات سنة بحسب ما يُقدِّره خبراء علوم الأرض والبحار [1]، ونتساءل أيضا كيف انعدم أو اختفى الماء على سطح بعض الكواكب المجاورة، أو كيف لم يتواجد في حالة سائلة على بعضها الآخر؟ في حين تواجد هذا العنصر بوفرة على الكوكب الأخضر منذ ما يزيد عن أربعة مليارات سنة [2]، أي قبل بداية الخلق عليها كونه هو العنصر الرئيسي واللازم لظهور الحياة وازدهارها.
ولكي نجد أجوبة على أسئلتنا تلك لم نجد خيرا من كتاب الله نبحث فيه، إذ كيف نسأل الخلق عن حال المخلوقات ونذر خالق الخلق وخالق المخلوقات؟!
وكيف لنا أن نبحث في مُخططات وكُتب البشرِ ونذر قول مُنزلُ الآيات المُعجزات والسُورْ ؟! وإذا كان الحبيبُ المصطفى- صلى الله عليه وسلم- قد أخبرنا أنّ القرآن فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحُكم ما بيننا، وأنّه قولٌ فصل وليس بالهزل، وأنّه لا تُفنى عجائبه[3]، فيكف لنا إذا أن نستعين بالفرضيات والتجارب والنظريات العلمية البشرية وحدها من دون كتاب صادق يتضمنُ اليقين من أنباء ما قبلنا؟ أليس هو الكتاب المُعجز الذي سبق مرّات عديدة الحقائق العلمية الحديثة بمئات السنين؟ ثم أليس الله تعالى من أمرنا أن نبحث عن الحقيقة ونسأل عن نشأة الكون وبداية الخلق في قوله سبحانه: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ * ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَة * إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ العنكبوت - (الآية: 20) ؟
فكيف إذا بدأ خلق الماء؟ وكيف جاء ذكر تواجده على الأرض في هذا الكتاب المُعجز؟ ولماذا جاء في القرآن استعمال صفتي "الإنزال" و"التنزيل" عند ذكر نزول الماء إلى سطح الأرض؟ وهل لاختلاف المعنى اللُغوي في هاتين الصفتين ما يخبر عن أصل الماء وكيفية استقراره في الأرض؟ وماذا استخلص الجيولوجيون وعلماء العصر الحديث عن أصل الماء في كوكبنا؟ وهل سبق القرآن الحقائق الجيولوجية الحديثة في إعطائه لنا نبئا حدث منذ ما يزيد عن 4 مليارات سنــــــــة؟
رؤية العلم الحديث إلى مصدر مياه الأرض
لقد نشأ الكوكب الثالث في المجموع الشمسية – الأرض- منذ ما يقارب 4.5 مليار سنة[4]، ولقد نتج هذا التكوّن من جرّاء تراكم وتكثف وتحجر الحلقات السحابية أو السديمية الحاملة لذرات الغاز وذرات الغبار الكوني المُغطى بجزيئات دقيقة من الماء، والناتج من بقايا النجوم المندثرة في مجرة درب التبانة [5]، فلمدة قد امتدت إلى 10 مليارات سنة ظلت الحلقات السديمية تتراكم تحت تأثير الجاذبية، وكلما زاد التكاثف والتراكم ارتفعت درجات حرارة المركز، فظهر بذلك نجم يدعى ب: "الشمس"، وفي نفس الوقت تجمعت العناصر الثقيلة كالحديد والألمنيوم والنيكل في شكل حلقات، وما إن يبلغ قطر الحلقة الواحدة 800 متر وأكثر حتى تكون الكتلة كافية بأن تسحب إليها العناصر المجاورة الأخرى، وتحت تأثير الجاذبية تَكوْكَبت تلك الحلقات فظهرت كواكب المجموعة الشمسية بما فيها الأرض، غير أنها لم تكن تشبهُ الأرض التي نعيش عليها اليوم، فدرجة الحرارة في تلك الحقبة كانت تقدر ب: 5000 درجة مئوية، إضافة إلى الرياح الشمسية والتي كانت تعصف بسرعة تقدر ب: مليون كيلومتر في الساعة ! فلم تكن الأرض حينها إلاّ كوكبًا قاحلاً مهجورًا يحوي طاقة معتبرة ناتجة من جرّاء ظاهرة التراكم تلك، كما كان يحوي العديد من العناصر الكيميائية الأخرى والتي كانت في حالة غازية، فدرجات الحرارة العالية حينذاك لم تكن لتسمح بوجود الماء في حالة سائلة. وبمرور الوقت انخفضت تدريجيا درجة حرارة الأرض، ثم حدث وأن أصبح 70% من سطحها مغمورا بالماء والجزء الباقي ينقسم ما بين صحاري وغابات وجبال وسهول وهضاب وأودية، فأصبحت بذلك كوكبًا حيّا بلون أزرق لما يحويه من كميات هائلة من الماء المتدفق في حالته السائلة، فما الذي حدث بالضبط؟ ومن أين جاء الماء الذي ننعم به اليوم؟
المصدر الأول للماء
انقسمت أراء العلماء في تحديد مصدر الماء الذي تواجد على سطح الأرض، ففي الوقت الذي يعتقد بعض علماء الفيزياء الفلكية أنّ مصدر الماء هو الشُهب[6] التي كانت تأتي من أطراف المجموعة الشمسية القصية والحاملة لكميات هائلة من الجليد، ذهب البعض الآخر منهم للقول أن مصدر الماء هوالمذنبات[7] المتكونة أساسًا من 80 % من الجليد والمنحدرة من حزام كويبر[8] أومن سحابة أورط[9] والتي إرتطمت في الأرض منذ ملايين السنين. وحتى وإن اختلف علماء الفيزياء الفلكية في طبيعة ومصدر الأجسام السماوية التي حملت الماء المتجمد إلى الأرض غير أنهم يتفقون في أنّ هذه الأجسام ( سواء كانت شُهبا أم مذنبات) قد غاصت في طبقة القشرة الأرضية بفعل ظاهرة الارتطام الهائل مع السطح الأرضي محررةً بذلك كميات الجليد التي كانت تحملها، وما إن تحررت حتى تحولت بفعل الحرارة العالية جدًا إلى بخار، ثم لعب الغلاف الجوي دورًا مهما في الحفاظ على هذا البخار والحيلولة دون تسرُبه إلى الفضاء الخارجي.
المصدر الثاني للماء
غير أن اكتشافات جديدة في هذا المجال قد دفعت العلماء للقول أنّه لا يوجد تفسيرًا واحدًا لوجود الماء على سطح الأرض، أي أنّ الشُهب والمُذنبات لم تكن وحدها مسؤولة عن تواجد الماء بل يوجد هناك مصدر آخر تم تأييده مؤخرا، حيث قام علماء الفيزياء الفلكية بحساب نسبة مادة الديُوتريوم [10] إلى مادة الهيدروجين المتواجدة في مذنب هالي [11] وهذا باستعمال القمر الصناعي جيوتو[12]،ثم قاموا بحساب نسبة مادة الديُوتريوم إلى مادة الهيدروجين المتواجدة في المحيطات، فكانت النسبة المقدرة هي 0.00003 على مذنب هالي مقابل 0.0000015 في المحيطات، فاستنتجوا أنّ المياه التي كان مصدرها المذنبات ( أو الشهب) لا تشكل سوى 10 % من مجموع مياه الأرض، علماء الفيزياء الفلكية استنتجوا بناءًا على هذه الاكتشافات أنّ مصدر الماء لم يكن من الفضاء الخارجي فحسب (المذنبات أو الشُهب) لكن كان جُزءا معتبرا منهُ من مصدر آخر وهو ظاهرة تبخر المياه التي كانت محجوزة داخل جيوب الغلاف الأرضي، والتي تشكلت أثناء نشوء الأرض مع ظاهرة تراكم ذرات الغبار الكوني والتي كانت مغطاة بجزيئات دقيقة من الماء، فالطاقة الناتجة والمندفعة من باطن الأرض تسببت بإحداث نشاطات بركانية هائلة دفعت بدورها كميات المياه المحجوزة داخل جيوب القشرة الأرضية إلى الخروج في شكل بخار، لتبقى بذلك حبيسة الغلاف الجوي، وهذا ما قاله الجيولوجيون في مصدر مياه الأرض. فيكون علماء الفيزياء الفلكية بهذا الاكتشاف قد اتفقوا مع عُلماء الجيولوجية في المصدر الثاني للماء مؤيدين بذلك نظرية ازدواجية مصدر الماء.
إستقرار الماء على سطح الأرض
حتى وإن اختلفت الأطروحات العلمية في مصدر الماء أهو خارجي (عبر المذنبات أو الشهب ) أو داخلي (عبر جيوب القشرة الأرضية)، أم أنّه تواجد تبعا للمصدرين معًا، إلا أنّ العلماء وبالأخص الجيولوجيون يتفقون ويؤكدون جميعا حقيقة علمية مفادها أنّ المياه التي استقرت على سطح الأرض في حالتها السائلة هي مياه قد نزلت من أمطار طوفانية عنيفة امتدت لملايين السنين [13]،فالبخار الذي انفلت من جيوب القشرة الأرضية بسبب النشاطات البركانية الهائلة أو الناتج من ذوبان الجليد المنفصل عن المذنبات، قد اندفع إلى أعلى الغلاف الجوِّي، ثم تراكم إثر تدنِي درجة حرارة الأرض تدريجياً، فتشكلت بذلك سُحبا كثيفة وسميكة جدًا غطت كل الكرة الأرضية، وما إن توفرت درجة الحرارة الملائمة واللازمة لحدوث ظاهرة المطر حتى بدأت الأمطار الطوفانية الغزيرة والعنيفة في النزول، حيث غمرت سطح الأرض وكانت مُدتها ملايين السنين[13]، وهذه الحقبة الزمنية الطويلة كانت لازمة وكافية لغمر وملئ الحُفر السحيقة التي تُوجد في المحيطات والتي يصل عمق بعضها إلى أكثر من 10000 متر، كما هو الحال في المحيط الهادي والذي يحوي في جوفه على أعمق حفرة بحرية في العالم وهي حفرة "ماريان" [14] والتي تقدر ب: 11521 متر. فبفعل هذه الأمطار العنيفة وطويلة المدى ظهرت المحيطات والبحار والبحيرات والبرك والمياه الجوفية، وتمكّن الماء أخيرًا من الاستقرار على سطح الأرض في حالته السائلة كمياه عذبة ومياه مالحة، وبظهور أول الكائنات الدقيقة امتصت المحيطات والبحار كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون، وظل معدل درجة الحرارة في الإنخفاظ حتى استقر نسبيًا على المعدل الذي نعرفه اليوم، وباختلاف درجات الحرارة في زوايا الأرض اختلفت صفة تواجد الماء من سائل إلى متبخر إلى متجمد، كما نشأت ظواهر طبيعية عديدة من بينها ظاهرة تشكل السُحب وسقوط الأمطار بالصفة التي نعرفها اليوم، والناتجة من ظاهرة دورة المياه من الأرض إلى الغلاف الجوِّي ثم إلى الأرض مرة أخرى( راجع بحثنا بعنوان: إعجاز الكتاب في وصف ثقل السحاب) [15].
الدلالة اللغوية للفظ "نزّل" و" أنزل"
1) المعنى اللغوي لكلمة "نزل".
النزول في اللغة يعني هُبوط الشيء ووقوعه، وعلى هذا النحو قال ابن فارس رحمه الله: "النون والزاء واللام كلمة صحيحة تدل على هبوط شيء ووقوعه"، وكلام ابن فارس هذا يعني أنه ليس لهذه الكلمة إلا هذا المغزى وهذا المعنى، وما ساقه بعض كُتَّاب علوم القرآن من أن لهذه الكلمة معنى ثانياً وهو"الحُلول" فليس هو معنى آخر للكلمة، بل هو على الغالب يعود إلى هذه المادة فهو بذلك لازم من لوازمها. وما قاله ابن فارس أكَّده الراغب الأصفهاني[16] في كتابه "مفردات ألفاظ القرآن"، كما ذكره السمين الحلبي في كتابه "عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ".
وتقول العرب: " نزل الرجل عن دابته نزولا" و" نزل المطر من السماء نزولا"، والنازلة: الشديدة من شدائد الدهر تنزل، أما النزال في الحرب هو أن يتنازل الفريقان، ونزال: كلمة توضع موضع أنزل، ومكان نزل: ينزل فيه كثيرا، ويعبرون عن الحج بالنزول، ونزل الرجل أي: حجَّ.
2) الفرق بين الفعل "نَزَّلَ" و" أَنْزَلَ"
لقد جاء في قواعد اللغة العربية أنّ كل زيادة في المبنى تتبعها زيادة في المعنى، والترادُف التام تأباه قواعد العربية، فيكتسب المُصطلح من أيّ زيادة معنى آخر، والمُتأمل في كلام العرب من شعر ونثر يرى ذلك جليًا. ففي غالب الأحيان يُفيد الفعل الذي يأتي على وزن "فَعَّلَ" التكثير والمبالغة[17]، والحدث فيه يستغرق وقتا أطول وأنّه يفيد تلبثا ومكثا، فالفعل "قَطَّعَ" مثلاً يفيد استغراق وقت أطول من "قَطَعَ"، وفي "عَلَّمَ" من التلبُث وطول الوقت والتكرار ما ليس في " أعْلَمَ"، فنقول مثلاً: (عَلَّمَ الشيخُ الفقهَ لطلبةِ العلم) ولا نقول ( أعْلَمَ الشيخ الفقه لطلبة العلم) لأن تعلُّم الفقه يحتاج إلى تكرار وحفظ ومداومة وتذكير، فيأخذ بذلك وقتا أطول. أما الفعل إذا جاء على وزن " أَفْعَلَ" فله دلالة على حدوثه دفعة واحدة بدون تكثير ولا مبالغة ولا يستغرق حدوثه وقتا طويلا، كأن نقول مثلاً: )أَعْلَمْتُ فلان الطريق إلى المسجد( ولا نقول )عَلَّْمْتُ فلان الطريق إلى المسجد( لأن تعليم الطريق لا يحتاج إلى التكرار والمداومة على ذلك، فمرة أو مرتين تكفي لأن يتعلّم العاقل طريقا أو سبيلا ما وفي وقت قصير نسبيًا. وكذا الحال بالنسبة ل: "نَزَّلَ" و" أَنْزَلَ" فالأولى تفيد التكثير والمبالغة في النزول واستغراق وقت أطول، بينما في الثانية يكون النزول عام وشامل بدون تكثير ولا مبالغة كما لا يستغرق الشيء وقتًا طويلا في حدوثه.
ذكر كلمة "نَزَّل" وأَنْزَلَ" في القرآن الكريم
لقد جاء استعمال صفة التنزيل ( أي أنّ الفعل يأتي بلفظ: نَزَّلَ ) وصفة الإنزال ( أي أنّ الفعل يأتي بلفظ: أَنْزَلَ ) في آيات عديدة من القرآن. ومن شواهد ذلك في كتاب الله لفظي تنزيل وإنزال القرآن ولفظي تنزيل وإنزال الكتب السماوية، ولفظي إنزال وتنزيل الماء، وإنزال وتنزيل الملائكة، وإنزال وتنزيل المن والسلوى وإنزال وتنزيل الذِكر، وإنزال(دون التنزيل) الحديد واللباس. حيث نجد أفعالا تأتي تارة على وزن " فَعّلَ" وهي " نَزَّلَ " وتأتي تارة أخرى على وزن "أفعَلَ" وهي " أَنْزَلَ "، وقد يقترنان في آية واحدة أو آيات متتالية وقد يردان في القصة نفسها وقد يردان في سورتين مختلفتين، ولكل من الصيغتين معنى زائدا يخالف معنى الصيغة الأخرى وإن اتفقتا في المعنى الأصلي للنزول.
بناءًا على ما سبق ذكره أعلاه من القواعد النحوية، سنُحاول أن نلتمس الفرق بين لفظ "نَزَّلَ" و" أَنْزَلَ" في الاستعمال القرآني، وسنأخذ على سبيل المثال الآيات التي جاءت فيها صفتي الإنزال والتنزيل للقرآن والكتب السماوية وأيضا الإنزال والتنزيل للماء، ونظرا لضرورة هذه الأمثلة في بحثنا هذا فإننا سنسهب في شرح وتبيان هذا الفصل.
1) ذكر نزول القرآن والكتب السماوية
لقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث رواه ابن عباس: " أُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة"[18]، أي أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله قد أنزل القرآن كاملاً جملةً واحدةً في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فلهذا جاء اللفظ في الحديث أعلاه ب: " أَنْزَلَ "، ويتبين لنا ذلك أيضا في قوله سبحانه:﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ القدر - الآية:1، فجاء اللفظ هنا ب: "أَنْزَلَ" والذي هو على وزن "أَفْعَلَ" لكي يفيد الإنزال العام بدون تكرار ولا تفصيل ولا استغراق للوقت، وكذا الشأن بالنسبة للكتب السماوية الأخرى، فالتوراة كما نعلم قد أُتيت لموسى دُفعةً واحدة فلهذا جاء اللفظ ب " أَنْزَلَ " كما ذكر لنا ذلك تعالى في قوله: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ آل عمران - الآية:3. ولما كان نزول القرآن من السماء الدنيا إلى الأرض متفرقًا سورة سورة وآية آية على قلب النبي صلى الله عليه وسلم طوال الفترة التي قضاها بين الناس منذ بعثته إلى وفاته، جاء في الحديث أعلاه اللفظ ب: "نزّل"، ويتبين لنا ذلك أيضا في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ﴾ الإنسان - الآية:23، وكما نرى فإن اللفظ "نَزَّلَ" والذي هو على وزن "فَعَّلَ" جاء في هذه الآية ليفيد التدرج والتفصيل والتفرق في النزول واستغراق وقت أطول.
2) ذكر نزول الماء
لقد جاء ذكر نزول الماء من السماء إلى الأرض في آيات عديدة، بعضها جاءت بلفظ "أنزل" والبعض الآخر جاء بلفظ: "نزَّل".
أ) الآيات التي جائت بلفظ " أَنْزَلَ"
﴿ وَهُو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه * حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ * كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ الأعراف - الآية: 57
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاح * وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ الكهف - الآية: 45
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَو نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْس ِ * كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ يونس - الآية: 24
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُم * وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُم * وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا * وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ الحج - الآية: 05
﴿ وَأَنْزَلْنَامِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾ النبأ - الآية: 14
﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ الحجر - الآية: 22
﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْض*وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ المؤمنون - الآية: 18
﴿وَهُو الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ* وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ الفرقان -آية:48.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّة*إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ الحج - الآية: 63
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لو نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ الواقعة - الآية:68، 69، 70
ب) الآيات التي جائت بلفظ "نَزَّلَ"
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ* قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ* بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾العنكبوت - ية:63
﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا* كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ الزخرف - الآية: 11
أوجه الإعجاز في الآيات المذكورة
الوجه الأول
إنّ كميات المياه التي نزلت عن طريق الأمطار الطوفانية الغزيرة والتي استغرقت مدة نزولها ملايين السنين، جاء ذكر صفة نزولها في القرآن بالتنزيل، فجاء اللفظ "نَزَّلََ" في الآية 11 من سورة الزخرف والآية 63 من سورة العنكبوت، وهو لفظ على وزن "فَعَّلَ" والذي يفيد التكثير والمبالغة والحدث فيه يستغرق وقتا أطول. أما المياه التي تَنْزِلُ عن طريق الأمطار الموسمية العادية - التي نعهدها اليوم - والتي عادةً ما تكون مدة هطولها من بضع دقائق إلى بضع أيام كأقصى تقدير، والتي لا يمكن أن تكون بحجم الأمطار الطوفانية، جاء ذكر صفة نزولها في القرآن بالإنزال، فجاء اللفظ "أَنْزَلَ" في الآية57 من سورة الأعراف، في الآية 45 من سورة الكهف، في الآية 24 من سورة يونس، في الآية 5 والآية 63 من سورة الحج، في الآية 14 من سورة النبأ، في الآية 22 من سورة الحجر، في الآية 18 من سورة المؤمنون وفي الآية 48 من سورة الفرقان، وهو لفظ على وزن "أفْعَلَ" والذي له دلالة على حدوث الشيء دفعة واحدة دون تكرار ولا مبالغة ولا تكثير ولا يستغرق حدوثه وقتا طويلاً. هكذا يأتي اللفظ القرآني دقيقاً ومُعجزًا ومبينًا لنا الفرق بين الأمطار الطوفانية التي ضربت الأرض منذ مليارات السنين وبين الأمطار التي نعرفها اليوم، بين أمطار دامت لأحقاب زمنية طويلة فوصفت بصفة أوحت باستغراق وقت أطول ( أي صفة التنزيل) وبين أمطار لا يستغرق وقت نزولها سوى أيام أو أقل من ذلك فوصفَتْ بصفة أوحت باستغراق وقت قصير ( أي صفة الإنزال). كما يبين لنا اللفظ القرآني الفرق بين أمطار طوفانية غزيرة ووافرة وُصِفت بصفة أوحت بالمبالغة والتكثير (أي صفة التنزيل) وبين أمطار أقل غزارة من الأولى فوصِفَتْ بصفة أوحت بعدم المبالغة وعدم التكثير ( أي صفة الإنزال). ويبيّن لنا القرآن أيضا كيف تواجد الماء وأستقر على سطح الأرض وكيف نشأت المحيطات والبحار، فيخبرنا الخالق تعالى، مُنزلُ الماء والكتاب، أنّه شاء أن يكون للماء تنزيل ثم إنزال وأنّ الاختلاف اللغوي في هاتين المفردتين لم يكن ليعجز لسان قريش فحسب لكن ليعجز إنسان القرن الواحد والعشرين بعلمه واكتشافاته وأقماره الاصطناعية وتجاربه العلمية.
الوجه الثاني
لو تدبرنا في الآيات التي جاء اللفظ فيها ب: "نزّل" نجد أن القرآن يُخبرنا أنّ الماء الذي نُزِّل جَاء ليُحوِّل الأرض من كوكب قاحل مهجور إلى كوكب ينعمُ بالحياة، في حين لم يذكر لنا القرآن في هاتين الآيتين شيء عن النبات، ويتبيَّن لنا ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ* قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ* بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ العنكبوت - الآية:63، وفي قوله تعالى :﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا* كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ الزخرف - الآية:11 ، ولم يختلف علماء التفسير قط في أن المراد من كلمة "أنشرنا" هو"أحيينا". ولو تدبرنا في الآيات التي جاء اللفظ فيها ب: " أنزل" نجد أن القرآن يخبرنا أنّ الماء الذي أُنزل جاء ليخرج النبات والثمار والأشجار في حين لم يذكر لنا القرآن في هاته الآيات شيء عن إحياء الأرض الميتة، كما في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّة* إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ الحج - الآية: 63، وكما في قوله أيضا: (فاخرجنا به من كل الثمرات) في الآية:57 من سورة الأعراف، أو كما في قوله تعالى: (فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما) في الآية:45 من سورة الكهف، وقوله تعالى: ( فأخرجنا به نباتا وجنات ألفافا) في الآية:14 من سورة النبأ.
وهذا دليل على أنّ الماء الذي "أُنزل" لم يكن له نفس الدور الطبيعي والجيولوجي كالماء الذي "نُزِّل"، فهذا الأخير قد تَسببَ في استقرار الماء في حالة سائلة وظهور المحيطات والبحار التي كانت سبباً في بداية الحياة على الأرض وإحيائها وتحوُلها من كوكب قاحل مهجور إلى كوكب أخضر، لأنّ النباتات لم تَظهر مباشرة بعدما نزلت الأمطار الطوفانية لكنها ظهرت بعدها بملايين السنين، بينما ماء الأمطار العادية الذي جاء ذكرها باستعمال لفظ "أُنزِل" ليس سوى ماء المطر العادي والذي ينزل ليُخرج لنا الثمار والحبوب والأشجار، فهو لم يُحيِّ الأرض بل أخرج منها نباتها، فالفرق بين ذلك وذاك ليس في التعبير اللغوي فحسب لكن حتى في الأثر الطبيعي الذي يُحدثه كل واحد منهما بعد نزوله. وهذا ما قد بينه العلم الحديث في أن الأمطار الطوفانية كانت هي السبب في إحياء الأرض القاحلة والجرداء، وهذا ما لم يحدث في الكواكب السيّارة الأخرى.
الوجه الثالث
والآيات القرآنية التي جاء ذكر الماء فيها دون صفتي التنزيل أو الإنزال عديدة، نذكر منها قوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لو نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ الواقعة - (الآية:68، 69، 70)، نجد في هذه الآيات الكريمة أنّ الخالق تعالى يُخبرنا أنّه لو شاء لجعل ( في الماضي) الماء الذي نشربه وننعم به اليوم ماءًا أُجاجًا، أي ماء شديد الملوحة غير عذب. فقوله تعالى: (لو نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) جاء ليخبرنا أنّ الله، عندما قدّر للماء في بداية خلق الأرض أن يستقر على سطحها عبر الأمطار الطوفانية، كان سبحانه قادراً أن يجعل كل هذه المياه ِبحاراً ومحيطات دون غيرها من مستودعات المياه العذبة ! فيكون الماء كله مالحاً أجاجاً ! والإعجاز في هذه الآية الكريمة هو في لفظ (جَعَلْنَاهُ) حيث جاء تصريف الفعل " جَعَلَ" في الماضي، فقال تعالى:( جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) أي أن الله تعالى يخبرنا في كتاب أُنزل منذ 14 قرنا أنّ تلك الأمطار الطوفانية التي أنزلها منذ ملايين السنين كان سبحانه قادرا أن يجعلها تتجمّع في الأرض في شكل المحيطات والبحار فقط، فيكون الماء أجاجًا ولن تكون هناك قطرة ماء عذب على وجه الأرض ! ثم قال تعالى: (فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) أي هل لشَكَرتمُ الله على نعمة الماء العذب وهو الإله الذي كان قادرا أن يحرمكم من هذه النعمة ويجعل كل الماء المنّزل في أول الأمر وفي بداية الخلق مالحًا فلا حناجر ترتوي ولا أنعام تُسقى ولا نبات يُخرح.
الوجه الرابع
ومن الآيات القرآنية الأخرى التي جاء ذكر الماء فيها دون صفتي التنزيل والإنزال
قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ الملك - (الآية: 30)، وغورًا تعني ذاهباً في الأرض إلى الأسفل، لأن الغائر في اللغة العربية هو عكس النابع، أما الماء المعين فهو الماء الدافق الجاري فوق الأرض والتي تراه الأعين وتناله الأيدي والدِلاء، أي أنّ الخالق تعالى يقول لعباده: ماذا ستصنعون لو ذهب الماء الذي في آباركم وبحيراتكم وبحاركم إلى عمق الأرض؟ كيف ستنعمون وستعيشون من دونه إذا؟ هل من إله غيري وهل من رب سواي سيأتيكم بعد ذلك بماء جاري نابع ومتدفق ليعيد إليكم الحياة ؟ فماذا نصنعُ نحن البشر لو أعاد الله الماء إلى حالته التي كان عليها قبل بداية الخلق، أي قبل 4.5 مليارات سنة؟ حيث كان حبيسا في جيوب القشرة الأرضية؟ والإعجاز في هذه الآية الكريمة هو في لفظي (إِنْ أَصْبَحَ)، حيث إن اللغة العربية هي لغة جديرة بأن تُعطي للشرط معنى أكثر دقة ووضوحا بعكس اللغاة الأخرى، حيث نجد هناك كلمات للتعبير عن الشك في حدوث أو عدم حدوث الشيء كعبارة "إذا"، وكلمات للتعبير عن الافتراض القابل لحدوث الشيء كعبارة " إِنْ "، وكلمات للتعبير عن الافتراض الغير قابل لحدوث الشيء كعبارة " لو"، وعلى هذا النحو جاءت عبارة " إِنْ " في قوله تعالى (إِنْ أَصْبَحَ) لتُظهر لنا افتراضاً يمكن حدوثه، والحدث هنا هو أن يصبح الماء غورًا، وهو حدث قابل لأن يتحقق، فكيف لا يمكنه أن يتحقق والقوة التي أخرجت الماء من الأرض قادرة بأن تعيده إليها، وليس ذلك عليها بعسير. فهنا إشارة قرآنية إلى أن الماء الذي ننعم به اليوم كان في إحدى الأيام غائرًا ضاربًا في الأسفل وفي جيوب القشرة الأرضية قبل أن يستقر على سطح الأرض، وهذا قول الجيولوجيون في المصدر الثاني للماء.
خلاصة
من خلال هذه المعلومات والحقائق العلمية الحديثة يمكننا أن نستنتج أن استقرار الماء على الأرض لم يكن محض الصُدفة، لكن كان وفقًا لحسابات ووفقًا لشروط تتالت وتوفَّرت ووُضعت بصفة مذهلة ومُعجزة من طرف قوة قادرة على ذلك، فمن دون أدنى شك نقول أنّ خالق الكون هو الذي جعل الأرض مهيأة لاستقبال الماء واستقراره فيها دون غيرها من الكواكب السيّارة الأخرى وأنّ له حكمة بالغة في ذلك كله، وهذا برهان لكل من يُنكر حقيقة الخلق ويستبدلها جُحودًا بقوة الطبيعة وخرافة الصدفة، ولو كان ما يزعمونه صحيحاً ومنطقياً وليس باطلاً وزورًا، فإننا نسألهم لماذا لم تجعل الصدفة أو الطبيعة تلك الأسباب تتوافق وتتراتب وتتوفر لكي تجعل الماء يستقرُ في كواكب أخرى من دون الأرض؟! ثم لو افترضنا أنّ استقرار الماء على سطح الأرض كان صدفة فهل النسبة المثلى لليابسة والبحار (30% و70%) جاءت محض الصدفة أيضا؟ لا يمكن أن تكون كل تلك الأحداث الدقيقة صدفة لأنّ دروس الاحتمالات والمنطق الرياضي علّمتنا أن الصُدفْ لا تتوالى بتلك السهولة ! فالواحد منا قد يفني أشهراً وأعوامًا في رمي زهرة النرْد[19] وبلكاد يتحصل على التوفيقات التي يريدها، وإذا حصل عليها فلن يحصل على النتائج متتالية ومتتابعة حتى ولو أفنى عمره يعبث بزهرة النرْد تلك !! فكيف يمكن إذًا لكل تلك الأحداث الكونية التي نُظمت وسُخّرت بإحكام لكي تتسبب في ظهور 2.5 مليون مليار طن من الماء[20] أن تتصادف كل ثانية وكل دقيقة وكل ساعة وكل يوم طيلة 4.5 مليار من السنين ؟! بل كيف يمكن للأحداث والأسباب الكونية أن تتصادف وتنتج لنا مليارات من النجوم[21] في 14 مليار سنة شمسية[22] ؟ بينما لم يشهد بشرٌ قط أن تصادفت أحداث تجارِبه المخبرية وأنتجت له خلية أو حتى ذرة واحدة !!
هكذا قد بيّنا في بحثنا هذا كيف فصّل القرآن بين صفة نزول الماء من السماء إلى الأرض عبر الأمطار الطوفانية في بداية خلق الأرض وبين صفة نزول الأمطار الموسمية العادية، مُبيِّنًا لنا الفرق في المدة الزمنية التي تسغرقها كل واحدة منها والفرق في غزارتها وحجمها أيضًا، ومُبيِّنًا لنا دور كل واحدة منها وأثرها الجيولوجي، وكل ذلك في صفتين لغويتين وفي صورة بديعية رائعة لم تعجز ألسنتنا فحسب لك أعجزت حتى عقولنا وعلومنا. كما بيّنا أيضًا في بحثنا هذا كيف أشار القرآن إلى استقرار الماء في الأرض في وصف بديع رائع ومُعجز، يسبق بذلك النظريات العلمية الحديثة بمئات السنين ليشرح لنا ظاهرة طبيعية حدثت منذ ملايين السنين ! كل هذا يجعلنا نتساءل كيف يمكن لحديث دقيق كهذا- في كتاب أُنزل في القرن السادس الميلادي- أن يكون من قول البشر؟ بل كيف يمكن لحديث كهذا أن يتواجد في حقبة زمنية كتلك؟ حقبة زمنية تنعدم فيها أدنى وسائل المراقبة والحساب والأدوات العلمية الجيولوجية والفلكية الحديثة ؟! ففي الفترة التي بُعث فيها الحبيب المصطفى – عليه الصلاة السلام- لم يبلغ البشر أعلى القمم فوق الأرض ولا أعمق الحفر تحت البحر، ولم يكونوا قد بلغوا كل ربوع المعمورة، ولم تكن لهذا النبي حينئذ آلات ولا أقمار صناعية ولا آلات الرصد الحديثة، ولم يكن لديه قواعد الفلك ولا أسس الجيولوجية ! وحتى وإن كان له كل هذا فهو- بأبي وأمي- كان أمياّ لا يعرف الكتابة ولا القراءة، فكيف له أن يفتري على الله وأن يكتب كتابًا أعجز البشر في كل الأزمان؟! وجوابنا لكل عاقل لبيب أنّ هذا الحديث العظيم يجب أن يكون مُنزّلاً من عند إله عزيز مقتدر، حديث في كتاب أنزله على نبيه وعبده الأمي ليكون منهجا وعلما ينوّر للبشرية سبل النجاة، كتاب فيه من العلم ما هو معجز، يُعجز بيان العرب وعلم العجم وعلم الأولين والآخرين، وكيف لا يعجزُهم وعلمُهم أجمعين إلى علمه سبحانه وتعالى كبحر تنقُصه قطرة ماء بحجم هذه النقطة التي ننهي بها هذه الفقرة.