فقد كان الزمان في حقيقة الأمر قد استدار ، منذ قرون ، دورة قضت حركتها بأن تبتدئ شمس المعارف الضاحية على الشرق تميل إلى مغربها في الأفق الأوروبي ، منذ كان ابن خلدون يستقبل القرن التاسع بنظرة مشفقة من عواقب ذلك الدوران حين يقول: "واعتبر بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة ، لما كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة ، كيف زخرت فيها بحار العلم ، وتفننوا في اصطلاحات التعليم ، وأصناف العلوم ، واستنباط المسائل والفنون ، حتى أربوا على المتقدمين ، وفاتوا المتأخرين.ولما تناقض عمرانها وانذعر سكانها ، انطوى ذلك البساط بما عليه جملة ، وفقد العلم بها والتعليم" ثم يقول ، في خشية وإشفاق: "وما أدري ما فعل الله بالمشرق" ثم بعد أن يعلل نفسه بالبقية الباقية من أثارة العلوم في أقصى الشرق الإسلامي ، قائلاً: "ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة ، وخصوصاً في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر وأنهم على ثبح من العلوم العقلية" وبعد أن يباهي بسعد الدين التفتازاني ينظر إلى أوروبا مستعظماً ما بدأ يظهر فيها من نهضة للعلم لم تكن من قبل ، فيقول: "كذلك بلغنا لهذا العهد ، أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق ، وأن رسومها هناك متجددة ، ومجالس تعليمها متعددة ، ودواوينها جامعة متوفرة ، وطلبتها متكثرة ، والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما يشاء ويختار".