كان هذا النظر البعيد ، والتوقع العجيب ، قبل أن تطلع على الناس ، أنوار العصر الحديث باكتشاف إبرة القطب ، وبارود المدفع ، وظهور الطباعة ، وصناعة الورق ، وقبل اكتشاف أمريكا ، وقبل رحلات الرواد الأولين للطرق البحرية الرابطة بين الغرب والشرق ، وقبل أن تستحكم النهضة الأوروبية ، وتلد ما ولدت في الأفكار والآداب والفنون ، وفي العقيدة الدينية ، وقبل أن تقطع مناهج التفكير والبحث الأشواط التي قطعتها إلى نهاية القرن السابع عشر بحكمة بيكون وديكارت ، واكتشافات نيوتن فما الظن بما حدث بعد كل هذه الأطوار ، وما نجم عنها ، من انبثاق المعارف ، وبروز الاكتشافات ، التي جعلت الإنسان ، في ذاته ، وفي وضعه من العالم ، في القرن التاسع عشر مسيحياً ، الثالث عشر هجرياً ، قد اختلف اختلافاً بيناً عن الإنسان وعن وضعه من العالم في كل ما سبق من قرون منذ ابتداء الإنسانية ، فمدى الإدراك الحسي قد اختلف عما كان عليه باكتشاف للنظارة والمجهر ، فضلاً عن آفاق الإدراك العقلي التي تغيرت بالاكتشافات الرياضية ، والمعارف الكونية.والأرض بذاتها قد اختلفت عند الإنسان القديم في شكلها وحركتها وأقطارها ونسب الماء فيها من اليابس والطاقة الإنسانية قد تغيرت بما تمكن له من الآلات المسيرة بقوة البخار والمدلول التناسبي بين الزمان والمكان قد انقلب بحكم ما تمكن للإنسان من سرعة المواصلات الجديدة في البر والبحر ، بوسيلة المراكب البخارية ، فأصبحت حدود الأبعاد متجاوزة لما عهد من نهاياتها من قبل وتطلبها للظرف الزماني الذي تقطع فيه أقل بكثير من تطلبها القديم. "